mercredi 6 décembre 2006

أوائل الشهور العربية .. هل يجوز شرعاً إثباتها بالحساب الفلكي؟

بقلم: أحمد محمد شاكر (*)

هذا بحث فريد جامع عن موضوع الساعة في المملكة والعالم العربي، (رؤية الهلال.. والحساب الفلكي) كتبه قبل 66 عاما واحد من كبار شيوخ العلم الشرعي وأكثرهم شهرة الشيخ أحمد محمد شاكر يرحمه الله.

ثبت في مصر لدى المحكمة العليا الشرعية أن أول شهر ذي الحجة من هذا العام (سنة 1357هـ) يوم السبت، فكان عيد الأضحى يوم الاثنين (30 يناير سنة 1939م).

بعد بضعة أيام، نشر في المقطم أن حكومة المملكة العربية السعودية لم يثبت عندها ان السبت أول ذي الحجة، فصار أوله الأحد، فكان وقوف الحجيج بعرفة يوم الاثنين، والعيد يوم الثلاثاء (31 يناير سنة 1939م).

وفي يوم الجمعة 21 ذي الحجة (10 فبراير سنة 1939م) نشرت جريدة البلاغ عن مراسلها في بومباي احتفلوا بعيد الأضحى في هذا العام " يوم الأربعاء، خلافاً لما أعلن في الممالك الإسلامية الأخرى". ومعنى هذا أنه لم يثبت لدى مسلمي الهند ان أول الشهر السبت ولا الأحد، فاعتبروا أوله يوم الاثنين.

وهكذا في أكثر اشهر المواسم، يتراءى الناس الهلال في البلاد الإسلامية، فيرى في بلد ولا يرى في بلد آخر، ثم تختلف مواسم العبادات في بلاد المسلمين، فبلد صائم وبلد مفطر، وبلد مضح وبلد يصوم أهله عرفة.

قد كتب العلماء والفقهاء في اثبات الاهلة ابحاثاً قيمة نفيسة، في كتب التفسير والحديث والفقه وغيرها، واتفقت كلمتهم – أو كادت – على ان العبرة في ثبوت الشهر بالرؤية وحدها، وأنه لا يعتبر حساب منازل القمر ولا حساب المنجم، إلا شيئاً يحكى في مذهب الشافعي: أنه يجوز للحاسب أو المنجم ان يعمل في نفسه بحسابه، والا شيئاً آخر عندهم: أنه يجوز لغيرهما تقليدهما، أو يجوز تقليد الحاسب دون المنجم.

والعمدة في الباب الأحاديث الصحيحة التي لا شك في صحتها: "صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين". "لاتصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له". وما جاء في هذا المعنى من الفاظ الأحاديث الصحيحة.

ثم اختلف العلماء: هل يعتبر اختلاف المطالع أو لا يعتبر؟ أي انه اذا رؤى الهلال في بلد، هل يسري حكم الرؤية وثبوت الشهر على غيره من البلاد، وان بعد ما بينها، وان اختلف المطلع في كل منهما؟ او يكون لكل بلد رؤيته، فيكون في مصر على غير ما في الحجاز أو العراق أو نحو ذلك؟

اقوال المذاهب

اما الشافعية فإنهم ذهبوا الى ان لكل بلد رؤيتهم، على خلاف عندهم فيما يعتبر به البعد والقرب: أهو اختلاف المطالع، أم اتحاد الاقاليم واختلافها، أم مسافة القصر؟!

قال النووي في المجموع بعد ان فصّل ذلك: " فرع في مذاهب العلماء فيما إذا رأى الهلال أهل بلد دون غيرهم: قد ذكرنا تفصيل مذهبنا. ونقل ابن المنذر عن عكرمة والقاسم وسالم واسحاق بن راهويه: انه لا يلزم غير اهل بلد الرؤية، وعن الليث والشافعي وأحمد: يلزم، قال: ولا أعلمه إلا قول المدني والكوفي. يعني مالكاً وأبا حنيفة".

وقد كثر الكلام في هذه السنين في هذا المعنى وتكرر، من أجل سرعة الاتصال بين اقطار الأرض، بما استحدث من التلغراف والتليفون أولاً، ثم بالراديو أخيراً. وصارت بلاد الاسلام كأنها بلد واحد في وصول الاخبار بإثبات الشهر ونفيه، ويرى الناس ان هذا الاضطراب في مسائل شرعية هامة مؤقتة بوقوت سنوية أو شهرية، مما لا يصبرون على بقائه. ويحاولون ان يخرجوا منه، ما وجدوا لتوحيد الكلمة فيها سبيلاً.

واذكر انه جاء في العام الماضي أو قبله سؤال مفصل في هذا المعنى من الهند الى مشيخة الازهر الشريف، وارسلت المشيخة نسخاً منه الى جماعة كبار العلماء، ليجيب كل من حضراتهم بما يراه او يعلمه، وجاءت نسخته الى والد، ولا ادري ماذا كان من شأن السؤال بعد ذلك.

أما والدي فقد حبسه المرض عن التصرف بالقول او بالكتابة، شفاه الله.

وقد ادرت هذا البحث في فكري طويلاً، بعد ان بدا لي فيه رأي، أرجو ان يكون صواباً، ثم جاء الخلاف في هذا العام في يوم عرفة، وهو يوم الحج الأكبر، وهو اعظم المواسم الاسلامية، وشهر ذي الحجة أخطر الشهور اثراً، اذ ان يوم عرفة، وهو اليوم التاسع منه: ظرف محدود لأداء ركن الحج، وهو الوقوف بعرفة، وهو لا يدور إلا مرة واحدة في السنة،وأكثر الحجاج لا يحجون الا مرة واحدة في العمر، فلعلهم ان اخطأهم الوقوف في يومه الحقيقي يخشون أن لا يكونوا قد أدوا الفريضة عن انفسهم.

فكان هذا حافزاً لي على كتابة ما رأيته في اثبات الاهلة، لاعرضه على اهل العلم والنظر، من الفقهاء والمحدثين وغيرهم، في انحاء العالم الاسلامي.

فمما لا شك فيه ان العرب قبل الاسلام وفي صدر الاسلام لم يكونوا يعرفوان العلوم الفلكية معرفة علمية جازمة، كانوا أمة اميين، لا يكتبون ولا يحسبون، ومن شدا منهم شيئاً من ذلك فإنما يعرف مبادئ أو قشوراً، عرفها بالملاحظة والتتبع، او بالسماع والخبر، لم تبن على قواعد رياضية، ولا على براهين قطعية ترجع الى مقدمات أولية يقينية، ولذلك جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجع اثبات الشهر في عبادتهم الى الامر القطعي المشاهد، الذي هو في مقدور كل واحد منهم، أو في مقدور أكثرهم، وهو رؤية الهلال بالعين المجردة، فإن هذا احكم واضبط لمواقيت شعائرهم وعباداتهم، وهو الذي يصل اليه اليقين والثقة مما في استطاعتهم . ولا يكلف الله نفساً الا وسعها.

ولم يكن مما يوافق حكمة الشارع ان يجعل مناط الاثبات في الأهلة الحساب والفلك، وهم لا يعرفون شيئاً من ذلك في حواضرهم، وكثير منهم بادون لا تصل اليهم انباء الحواضر، إلا في فترات متقاربة حيناً ومتباعدة أحياناً. فلو جعله لهم بالحساب والفلك لاعنتهم، ولم يعرفه منهم الا الشاذ والنادر في البوادي، عن سماع ان وصل اليهم، ولم يعرفه أهل الحواضر الا تقليداً لبعض أهل الحساب، وأكثرهم أو كلهم من أهل الكتاب.

ثم فتح المسلمون الدنيا. وملكوا زمام العلوم، وتوسعوا في كل أفنانها، وترجموا علوم الأوائل، ونبغوا فيها، وكشفوا كثيراً من خباياها، وحفظوا لمن بعدهم، ومنها علوم الفلك والهيئة وحساب النجوم.

وكان أكثر الفقهاء والمحدثين لا يعرفون علوم الفلك، أوهم يعرفون بعض مبادئها، وكان بعضهم، أو كثير منهم لا يثق بمن يعرفها ولا يطمئن اليه، بل كان بعضهم يرمي المشتغل بها بالزيغ والابتداع، ظناً منه أن هذه العلوم يتوصل بها أهلها الى ادعاء العلم بالغيب ( التنجيم)، وكان بعضهم يدعي ذلك فعلاً، فأساء الى نفسه وإلى علمه، والفقهاء معذورون. ومن كان من الفقهاء والعلماء يعرف هذه العلوم لم يكن بمستطيع ان يحدد موقفها الصحيح بالنسبة الى الدين والفقه، بل كان يشير اليها على تخوّفٍ.

فانظر – مثلاً – الى تقي الدين السبكي، يذكر في فتاويه ان الحساب إذا دل بمقدمات قطعية على عدم امكان رؤية الهلال لم يقبل فيه شهادة الشهود، وتحمل على الكذب او الغلط، ثم يقول: " لأن الحساب قطعي، والشهادة والخبر ظنيان، والظن لا يعارض القطع، فضلاً عن أن يقدم عليه، والبينة شرطها أن يكون ما شهدت به ممكناً حساً وعقلاً وشرعاً، فإذا فرض دلالة الحساب قطعاً على عدم الامكان استحال القبول شرعاً، لاستحالة المشهود به، والشرع لا يأتي بالمستحيلات". ثم يقول بعد ذلك: "واعلم انه ليس من مرادنا بالقطع ههنا الذي يحصل بالبرهان الذي مقدماته كلها عقلية، فإن الحال هنا ليس كذلك، وانما هو مبني على ارصاد وتجارب طويلة، وتسيير منازل الشمس والقمر، ومعرفة حصول الضوء الذي فيه. بحيث يتمكن الناس من رؤيته، والناس يختلفون في حدة البصر". الى آخر كلامه.

وانظر الى الإمام الكبير تقي الدين بن دقيق العيد يقول في شرح عمدة الاحكام (ج 2 ص 206): " والذي أقول به ان الحساب لا يجوز ان يعتمد عليه في الصوم بمفارقة القمر للشمس، على ما يراه المنجمون من تقدم الشهر بالحساب على الشهر بالرؤية بيوم او يومين، فإن ذلك احداث لسبب لم يشرعه الله تعالى، وأما اذا دل الحساب على ان الهلال قد طلع من الافق على وجه يرى لولا وجود المانع، كالغيم مثلاً -: فهذا يقتضي الوجوب، لوجود السبب الشرعي، وليس حقيقة الرؤية بمشروطةٍ في اللزوم، لأن الاتفاق على ان المحبوس في المطمورة اذا علم بالحساب باكمال العدة، أو بالاجتهاد بالأمارات، ان اليوم من رمضان: وجب عليه الصوم، وإن لم ير الهلال ولا أخبره من رآه".

هكذا كان شأنهم، اذ كانت العلوم الكونية غير ذائعة ذيعان العلوم الدينية وما إليها، ولم تكن قواعدها قطعية الثبوت عند العلماء.

وهذه الشريعة الغراء السمحة، باقية على الدهر، الى ان يأذن الله بانتهاء هذه الحياة الدنيا. فهي تشريع لكل أمة، ولكل عصر، ولذلك نرى في نصوص الكتاب والسنة إشارات دقيقة لما يستحدث من الشؤون، فإذا جاء مصداقها فُسّرتْ وعلمت، وان فَسَرَهَا المتقدمون على غير حقيقتها.

تفسير انا امة امية

وقد أشير في السنة الصحيحة الى ما نحن بصدده، فروى البخاري من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: " إنا أمة أُميّة، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا. يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين". ورواه مالك في الموطأ والبخاري ومسلم وغيرهما بلفظ: " الشهر تسعة وعشرون، فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غمّ عليكم فاقدروا له".

وقد أصاب علماؤنا المتقدمون رحمهم الله في تفسير معنى الحديث، واخطأوا في تأويله، ومن اجمع قول لهم في ذلك قول الحافظ ابن حجر: " المراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك الا النزر اليسير.

فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية، لرفع الحرج عنهم في معاناة التسيير، واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك. بل ظاهر السياق ينفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً.

ويوضحه قوله في الحديث الماضي: فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين. ولم يقل فسلوا أهل الحساب. والحكمة فيه كون العدد عند الاغماء يستوي فيه المكلفون، فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم. وقد ذهب قوم الى الرجوع الى اهل التسيير في ذلك، وهم الروافض، ونقل عن بعض الفقهاء موافقتهم. قال الباجي:

واجماع السلف الصالح حجة عليهم. وقال ابن بزيزة: وهو مذهب باطل، فقد نهت الشرعية عن الخوض في علم النجوم، لأنها حدث وتخمين،ليس فيها قطع ولا ظن غالب، مع انه لو ارتبط الامر بها لضاق، اذ لا يعرفها إلا القليل".

فهذا التفسير صواب، في أن العبرة بالرؤية لا بالحساب، والتأويل خطأ، في انه لو حدث من يعرف ذلك (استمر الحكم في الصوم)، لأن الأمر باعتماد الرؤية وحدها جاء معللاً بعلة منصوصة، وهو ان الأمة " أمية لا تكتب ولا تحسب"، والعلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً، فإذا خرجت الأمة عن اميتها، وصارت تكتب وتحسب، أني صارت في مجموعها ممن يعرف هذه العلوم، وأمكن الناس – عامتهم وخاصتهم – ان يصلوا الى اليقين والقطع في حساب أول الشهر، وامكن ان يثقوا بهذا الحساب ثقتهم بالرؤية أو أقوى، إذا صار هذا شأنهم في جماعتهم وزالت علة الأمية: وجب ان يرجعوا الى اليقين الثابت، وأن يأخذوا في اثبات الاهلة بالحساب وحده، وأن لا يرجعوا الى الرؤية إلا حين يستعصي عليهم العلم به، كما اذا كان ناس في بداية أو قرية، لا تصل اليهم الاخبار الصحيحة الثابتة عن أهل الحساب.

واذا وجب الرجوع الى الحساب وحده بزوال علة منعه، وجب ايضاً الرجوع الى الحساب الحقيقي للأهلة، واطّراح امكان الرؤية وعدم امكانها، فيكون أول الشهر الحقيقي الليلة التي يغيب فيها الهلال بعد بعد غروب الشمس، ولو بلحظة واحدة.

فهذه بلدنا – مصر – فيها مرصد من اعظم المراصد، وفيها علماء بالفلك والهيئة، من الازهريين وغيرهم، ممن يستطيعون ان يحسبوا حساب القمر حين يغيب بعد الشمس ولو بلحظة، في كل وقت وكل شهر، ويحكموا في ذلك الحكم القاطع الجازم، الموجب لليقين عند اهل العلم. فماذا علينا من بأس اذا رجعنا لقولهم وعلمهم، ووثقنا بحسابهم في ذلك، ثقتنا بحسابهم في مواقيت الصلاة وغيرها من العبادات؟ وثقتنا بأخبار التلغراف والتلفون والراديو في اثبات الهلال بالرؤية من أي بلد من بلدان مصر أو السودان أو غيرهما؟

رأي الشيخ المراغي

لقد كان للاستاذ الأكبر الشيخ المراغي، منذ اكثر من عشر سنين، حين كان رئيس المحكمة العليا الشرعية - : رأي في رد شهادة الشهود، إذا كان الحساب يقطع بعدم امكان الرؤية، كالرأي الذي نقلته هنا عن تقي الدين السبكي، وأثار رأيه هذا جدالاً شديداً، وكان والدي وكنت انا وبعض اخواني ممن خالف الاستاذ الأكبر في رأيه. ولكني اصرح الآن بأنه كان على صواب، وازيد عليه وجوب اثبات الأهلة بالحساب، في كل الأحوال، الا لمن استعصى عليه العلم به.

وما كان قولي هذا بدعاً من الأقوال: ان يختلف الحكم باختلاف احوال المكلفين، فإن هذا في الشريعة كثير، يعرفه أهل العلم وغيرهم. ومن امثلة ذلك في مسألتنا هذه: ان الحديث " فإن غم عليكم فاقدروا له" ورد بالفاظ أخر، في بعضها " فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين". ففسر العلماء الرواية المجملة "فاقدروا له" بالرواية المفسرة "فاكلموا العدة"، ولكن امام عظيماً من أئمة الشافعية، بل هو امامهم في وقته، وهو ابو العباس احمد بن عمر سريج، جمع بين الروايتين في حالين مختلفين: أن قوله " فاقدروا له" معناه: قدروه بحسب المنازل، وانه خطاب لمن خصه الله بهذا العلم. وأن قوله " فأكملوا العدة": خطاب للعامة.

فقولي هذا يكاد ينظر الى قول ابن سريج، الا انه جعله خاصاً بما اذا غم الشهر فلم يره الراؤون، وجعل حكم الاخذ بالحساب للاقلين، على ما كان في وقته من قلة عدد العارفين به، وعدم الثقة بقولهم وحسابهم، وبطء وصول الاخبار الى البلاد الأخرى، اذا ثبت الشهر في بعضها. واما قولي فإنه يقضي بعموم الاخذ بالحساب الدقيق الموثوق به، وعموم ذلك على الناس، بما يسر في هذه الأيام من سرعة وصول الاخبار وذيوعها. ويبقى الاعتماد على الرؤية للاقل النادر، ممن لا يصل اليه الاخبار، ولا يجد ما يثق به من معرفة الفلك ومنازل الشمس والقمر.

اختلاف المطالع

ولقد أرى ان قولي هذا اعدل الأقوال، واقربها الى الفقه السليم، والى الفهم الصحيح للأحاديث الواردة في هذا الباب.

بقيت بعد ذلك مسألة دقيقة، تتفرع ايضاً على ما ذهبنا اليه، وقد اشرنا اليه في اول كلامنا، وهي مسألة اختلاف المطالع:

فمن المعلوم ان المطالع تختلف باختلاف خطوط الطول وخطوط العرض، وكما يكون هذا في اعتبار الشهر بالرؤية يكون في اعتباره بالحساب. اما الفقهاء المتقدمون فقد اختلفوا في ذلك كما اوضحنا، بل الظاهر لنا من نقول بعض الناقلين ان اكثر الفقهاء لا يعتبرون اختلاف المطالع، كما نقل النووي عن ابن المنذر، مما يفهم منه انه قول الائمة الأربعة والليث بن سعد، وان اختلف اتباعهم فيه بعد ذلك. وكذلك قال القرافي في الفروق: " ان المالكية جعلوا رؤية الهلال في بلد من البلاد سبباً لوجوب الصوم على جميع اقطار الارض، ووافقتهم الحنابلة". ثم رجح القرافي ما يخالف مذهبه، وهو مالكي، فقال: " اذا تقرر الاتفاق على ان اوقات الصلوات تختلف باختلاف الآفاق، وان لكل قوم فجرهم وزوالهم وغير ذلك من الأوقات: فيلزم ذلك في الاهلة، بسبب ان البلاد المشرقية إذا كان الهلال فيها في الشعاع وبقيت الشمس تتحرك مع القمر إلى الجهة الغربية، فما تصل الشمس إلى افق المغرب الا وقد خرج الهلال من الشعاع، فيراه اهل المغرب، ولا يراه اهل المشرق. هذه احد أسباب اختلاف رؤية الهلال، وله أسباب اخرى مذكورة في علم الهيئة، لا يليق ذكرها هاهنا، انما ذكرت ما يقرب فهمه. وإذا كان الهلال يختلف باختلاف الافاق وجب ان يكون لكل قوم رؤيتهم في الاهلة، كما ان لكل قوم فجرهم وغير ذلك من أوقات الصلوات، وهذا حق ظاهر، وصواب متعين. اما وجوب الصوم على جميع الأقاليم برؤية الهلال في قطر منها فبعيد عن القواعد، والأدلة لم تقتض ذلك).

وقد سبقه إلى ذلك الحافظ أبو عمر بن عبدالبر، بل ادعى الاجماع على ذلك فيما إذا تباعدت البلاد جداً. والعلامة الشوكاني نقل اختلاف العلماء واقاويلهم في المسألة، ثم قال: (والذي ينبغي اعتماده هو ما ذهب إليه المالكية وجماعة من الزيدية، واختاره المهدي منهم، وحكاه القرطبي عن شيوخه: انه اذا رآه اهل بلد لزم اهل البلاد كلها، ولا يلتفت إلى ما قاله ابن عبدالبر من ان هذا القول خلاف الاجماع، قال: لأنهم قد اجمعوا على انه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلدان، كخراسان والاندلس، وذلك لان الاجماع لا يتم والمخالف مثل هؤلاء الجماعة).

والبدهي الذي لا يحتاج إلى دليل: ان اوائل الشهور لا تختلف باختلاف الأقطار أو تباعدها، وان اختلفت مطالع القمر، فإذا غاب القمر بعد مغيب الشمس فقد دخل الشهر وبدأ، واما تعليق وجوب العبادات على الرؤية فقد اظهرنا وجه تعليله بعلة منصوصة في السنة الصحيحة، فهو يدور معها وجودا وعدماً.

فالذين ذهبوا من العلماء إلى ان اختلاف المطالع معتبر، وان لكل بلد رؤيتهم فانما كانوا منطقيين جداً مع الحكم بالرؤية، لان هذا هو المستطاع إذ ذاك، ولان اعتبار اختلاف المطالع ليس مرجعه إلى اعتبارها في اوائل الشهور، حتى يكون لكل بلد شهرهم، كما لكل بلد رؤيتهم، وإنما هو -فيما نفهم- باعتبار تعلق خطاب التكليف بالمكلفين، فمن وصل إليه العلم بما كلف به، بالطريق الذي جعله الشارع سبباً للعلم، وهو الرؤية في امة امية تعلق به الخطاب، وصار مطلوباً منه العمل المؤقت بوقته.

والذين اهدروا اختلاف المطالع، وحكموا بسريان الرؤية في بلد على جميع أقطار الأرض كانوا ناظرين إلى الحقيقة المجردة، ان أول الشهر يجب ان يكون في هذه الكرة الأرضية يوماً واحداً، وهو الحق الذي لا مرية فيه.

ثم ان هذا التفصيل لا يعقل مع الاخذ بالحساب، كما اخترنا ورجحنا، لان اليوم الأول من كل شهر هلالي يوم واحد في جميع أقطار الأرض، لا يختلف باختلاف المناطق، ولا يبعد الأقاليم بعضها عن بعض.

ولكن الامر الدقيق عندي: هل يجب اعتبار أول الشهر باية نقطة في الأرض غاب فيها القمر بعد الشمس؟ أو يجب ان يكون لذلك نقطة معينة يرجع اليها العالم كله في هذا النظر والاعتبار؟

الذي أراه وارجحه انه يجب الرجوع إلى نقطة واحدة معينة في ذلك، أشير اليها في أصلي الشريعة: الكتاب والسنة، وهي مكة.

انظر إلى قوله تعالى: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)، فالذي أراه ان تخصيص الحج بالذكر في هذا المقام بعد العموم، انما هو اشارة دقيقة إلى اعتبار أصل التوقيت الزماني متصلا بمكان واحد، مكان الحج، وهو مكة.

واما السنة: فقد روى الترمذي في سننه من طريق اسحق بن جعفر بن محمد بن الحسين -وهو زوج السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن- عن عبدالله بن جعفر المخرمي الزهري عن عثمان بن محمد الاخنسي عن المقبري عن ابي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والاضحى يوم تضحون). قال الترمذي: (هذا حديث غريب حسن). ونقول: بل هو حديث صحيح، فقد صحح الترمذي حديثاً من رواية المعلي بن منصور عن عبدالله بن جعفر، بهذا الاسناد. ثم ان اسحق بن جعفر لم ينفرد به، فقد رواه أيضاً أبو سعيد مولى بني هاشم، ومحمد بن عمر الواقدي، كلاهما عن عبدالله بن جعفر المخرمي بهذا الاسناد. ثم ان عبدالله بن جعفر المخرمي لم ينفرد به أيضاً، فقد رواه الواقدي عن داود بن خالد وثابت بن قيس ومحمد بن مسلم، ثلاثتهم عن المقبري عن ابي هريرة. ولذلك رجح القاضي أبو بكر بن العربي في شرحه على الترمذي انه حديث صحيح.

ورواه أبو داود في سننه من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن المنكدر عن ابي هريرة مرفوعاً: (فطركم يوم تفطرون، واضحاكم يوم تضحون، وكل عرفة موقف، وكل منى منحر، وكل فجاج مكة منحر، وكل جمع موقف).

وكذلك رواه الدارقطني من هذا الطريق ومن طريق روح بن القاسم عن ابن المنكر، ورواه البيهقي في السنن الكبرى من طريق عبدالوارث وروح بن القاسم عن ابن المنكدر، ورواه أيضاً من طريق حماد بن زيد كرواية ابي داود.

ورواه الدارقطني والبيهقي من طريق إسماعيل بن علية وعبدالوهاب الثقفي عن أيوب عن محمد بن المنكر عن ابي هريرة موقوفاً قال: (انما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين. فطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون، وكل عرفة موقف، وكل منى منحر، وكل فجاج مكة منحر).

ورواه ابن ماجه في سننه من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون).

فهذه أسانيد كلهما صحاح، يشد بعضها بعضاً، ويؤيد بعضها بعضاً، وهي ترد على الترمذي استغرابه للحديث، فقد ورد من طرق صحيحة متعددة.

تفسير الحديث

ولكن ما معنى هذا الحديث؟

أما المتقدمون من العلماء فقد ذهبوا في تفسيره إلى معنى قد يكون هو المعنى الظاهر من اللفظ، فقال الترمذي في السنن: (وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إنما معنى هذا: الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس) وقال الخطابي: (معنى الحديث: أن الخطأ موضوع الناس فيما كان سبيله الاجتهاد، فلو أن قوماً اجتهدوا فلم يروا الهلال إلا بعد الثلاثين فلم يفطروا حتى استوفوا العدد، ثم ثبت عندهم ان الشهر كان تسعاً وعشرين، فإن صومهم وفطرهم ماض، فلا شيء عليهم من وزر أو عتب) وقال تقي الدين السبكي في فتاويه: (المراد منه: إذا اتفقوا على ذلك، فالمسلمون لا يتفقون على ضلالة، والإجماع حجة).

وقد يكون لتفسيرهم هذا تأييد بما رواه الترمذي من حديث معمر بن محمد بن المنكدر عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحى الناس) قال الترمذي: (هذا حديث حسن غريب صحيح من هذا الوجه).

ولكنا نعرف أن كثيرا من الرواة يختصرون الأحاديث، ويروون بعضها بالمعنى، ولذلك كان حفاظ الحديث ونقاده يجمعون الروايات الممتدة، وكثيراً ما يكون الحديث المفسر المطول مبيناً لمعنى الحديث المختصر، فنجد حديث عائشة هذا رواه البيهقي من طريق سفيان الثورى عن محمد بن المنكدر عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عرفة يوم يعرف الإمام، والأضحى يوم يضحي الإمام، والفطر يوم يفطر الإمام) وإسناده صحيح. فهذه الرواية المفسرة تعني أن المراد بـ (الناس) الإمام، وهو الذي يكون معه عظم الناس.

ثم إننا نجد في مجموع الروايات التي نقلنا، من حديث أبي هريرة وعائشة: شيئاً مشتركاً بين كثير من ألفاظها، يحتاج إلى نظر وتأمل، وهو ذكر (عرفة) يوماً أو مكاناً، وذكر مكة ومنى ومزدلفة: (كل عرفة موقف) (عرفة يوم يعرف الإمام) وفي رواية مرسلة من طريق الشافعي عند البيهقي (وعرفة يوم تعرفون) (وكل منى منحر، وكل فجاج مكة منحر، وكل جمع موقف).

فذكر أماكن الحج وزمانه في كثير من روايات الحديث، بل في أكثرها، يرجح عندي أن هذا الحديث إنما كان في حجة الوداع، حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الناس شعائر الحج، ويخطبهم في عرفة وفي منى وفي غيرهما، فلم يحفظ عنه أنه علم الناس شعائر الحج في غير حجة الوداع، ويؤيد ذلك أن جابر بن عبدالله وصف حجة الوداع في حديث طويل معروف عند المحدثين، وفيه ما يشبه بعض حديث أبي هريرة، فيذكر جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر الهدى وأكل منه ثم قال: (قد نحرت هاهنا، ومنى كلها منحر، ووقف بعرفة فقال: وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف، ووقف بالمزدلفة فقال: قد وقفت هاهنا، والمزدلفة كلها موقف)

فيكون حديث أبي هريرة المرفوع (فطركم يوم تفطرون) الخ خطاباً لأهل الحج في مكان الحج، لما ذكر معه من شأن عرفة ومكة والمزدلفة، ويكون حديث الآخر المرفوع أيضاً (الصوم يوم تصومون) الخ من هذا الحديث نفسه، ويكون أيضاً خطاباً لأهل الحج في مكان الحج، وكذلك سائر الروايات، من حديث عائشة وغيرها، إنما تحمل على هذا المعنى: أنها كلها روايات عن حجة الوداع، وأن من روى بلفظ (يوم يفطر الناس) أو (يوم يفطر الإمام) إنما روى بالمعنى، وأن أصل الحديث خطاب لمن كان في أماكن الحج.

مطلع مكة هو الأساس

وبذلك نفهم من معنى هذه الأحاديث أن الصوم يوم يصوم أهل مكة وما حولها، وأن الفطر يوم يفطرون، وأن الأضحى يوم يضحون، وأن عرفة يوم يعرفون، فهذه الأماكن هي المعتمدة في إثبات الأهلة، وهي التي يكون على المسلمين في أقطار الأرض أن يتبعوا مطالع الأهلة فيها، ويكون في هذا إشارة دقيقة إلى وجه الحكمة والمعنى في تخصيص ذكر الحج بعد عموم المواقيت، في قوله تعالى: ( هي مواقيت للناس والحج).

فلو ذهبنا إلى ما رأيته وفهمته، توحدت كلمة المسلمين في إثبات الشهور القمرية، وكانت مكة، وهي منبع الإسلام ومهبط الوحي، وهي ملتقى المسلمين في كل عام كأنهم على ميعاد، يتعارفون فيها ويتوادون، وفيها بيت الله الذي نحوه يتوجهون في صلاتهم، كانت مكة هذه مركز الدائرة لهم في تحديد مواقيتهم.وبعد: فهذا بحث لم أكتبه إلا بعد روية وفكر، وتدبر ونظر، على طريقة سلفنا الصالح من العلماء، في الأخذ بالكتاب والسنة، ونبذ التقليد والعصبية، لعلي أصبت فيه وجه الصواب، بعون الله وتوفيقه، أعرضه لأنظار العلماء والباحثين، متقبلاً النقد والتأييد بالشكر والثناء، لتتمحص الحقيقة ويكشف عن وجه الصواب، ولا أطلب إلا أن يكون أساس البحث الكتاب والسنة، والاستنباط منهما، والفقه فيهما.أما إلقاء القول على عواهنه بأقوال جوفاء، مبنية على الرأي والهوى، كما يفعل من يسمون أنفسهم (المجددين)، فإنه يخرج بالبحث عن حده العلمي الدقيق، ولا يحق حقاً، ولا يبطل باطلاً.

وأما الاستمساك بأقوال الفقهاء التي يسميها بعضهم (نصوصاً) ويزعمونها حجة علينا وعلى الناس، فإنها أو أكثرها في متناول أيدينا وتحت أنظارنا، فلا نجادل من يحتج بها.

نعم، لا أستطيع ان امنع من شاء أن يقول ما شاء، ولكن أستطيع أن أمنع قلمي أن يخوض مع الخائضين.

واسأل الله العصمة والتوفيق..

(*) القاضي الشرعي