x

حسن البنا: لا تستعجلوا الثمرة قبل نضجها

الثلاثاء 08-05-2012 16:00 | كتب: تامر وجيه |
تصوير : other

"وكانت بيعة".. هذا ما كتبه حسن البنا (1906-1949) في "مذكرات الدعوة والداعية" واصفا نتيجة لقاءه بستة من عمال الإسماعيلية "الذين تأثروا بالدروس والمحاضرات التي ألقيها".

هذه البيعة التي تمت في الإسماعيلية في مارس 1928، حيث كان البنا يعمل مدرسا، كانت إشارة البدء لجماعة صغيرة سيكون لها في السنوات التالية شأن كبير: جماعة الإخوان المسلمين.

التكوين

وُلد حسن البنا في قرية المحمودية بمحافظة البحيرة لأسرة من الطبقة المتوسطة الدنيا. حيث كان أبوه، الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا، إماما لمسجد وكذلك صاحبا لمحل صغير لإصلاح الساعات.

وكشاب يافع، شارك البنا في محيطه الريفي في تأسيس أكثر من جمعية دينية محافظة كـ"جمعية منع المحرمات" التي وضعت على عاتقها مقاومة المنكر عن طريق إرسال خطابات مجهولة المصدر لمرتكبي المعاصي كالتقصير في الصلاة وعدم الصيام، و"جمعية الحصافية الخيرية" التي زاولت عملها في مجالين هما نشر الدعوة إلى "الأخلاق الفاضلة" ومقاومة نشاط الإرسالية المسيحية التبشيرية المتهمة بدعوة الأهالي إلى الدخول في الطائفة الإنجيلية.

لكن ما ميز البنا عن آلاف غيره من أبناء الطبقات الدنيا من المتعلمين الذين هالتهم التحولات التحديثية في المجتمع في مطلع القرن العشرين، والذين دفعتهم "صدمة الحداثة" إلى التدثر بعباءة الدين لمقاومة "الفساد والانحلال"، هو إصراره الذي لا يلين على المواصلة وقدراته السياسية الفذة التي عرف من خلالها كيف يبني جيشا عرمرم لنشر "الدعوة" في غضون ما لا يزيد على عشر سنوات.

كانت مصر وقتئذ مهيأة تماما لاستقبال دعوة البنا. ففي ثلاثينيات القرن العشرين، وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على ثورة 1919، باءت وعود الوفد في الاستقلال الوطني والحرية السياسية بالفشل، وبدأت الأمراض تنخر في جسد الحزب الليبرالي الأكبر في الشرق.

كانت تلك لحظة أسئلة كبرى عن الحاضر والمستقبل. وتعددت الإجابات: بين الحركات القومية المحافظة التي تضع تجربة هتلر موضع المثال وأبرزها "مصر الفتاة"، والتنظيمات الشيوعية الستالينية التي اقتفت خطا تجربة الاتحاد السوفيتي وأبرزها حدتو والعمال والفلاحين.. وأخيرا، الحركات الإسلامية الدعوية وأبرزها الإخوان المسلمون.

الجماعة

وعلى خلفية إحباط الطبقات الوسطى الحديثة من الليبرالية والليبراليين، شحذ البنا همته لبناء جماعته.

فوفقا لريتشارد ميتشيل، المؤرخ الأهم للإخوان المسلمين، كانت الجماعة في 1933 تضم 15 فرعا (فرع في القاهرة، وخمسة أفرع في مدن القناة، والباقي في منطقة الدلتا). وفي منتصف 1936 بلغ عدد أفرع الجماعة بين 100 و150. أما في منتصف 1937، فقد بلغ عدد الأفرع 216. ثم 500 فرعا في بدايات 1941 وأكثر من 1000 في 1943.

كذلك نما حجم العضوية بمعدل سريع منذ بداية الثلاثينيات. فقد بلغ عدد أعضاء الجماعة في 1935 ألف عضو، وفي 1936 وصل إلى ما بين 3 و5 آلاف عضو، ثم إلى 20 ألف عضو في 1937. ويقدر الباحثون أن عدد أعضاء الجماعة وصل في ذروته في الأربعينيات إلى أكثر من نصف مليون عضو.

على أن القدرات التنظيمية الفذة للبنا - والتي تمثلت في تقسيم بارع وحديدي للتنظيم - لم تكن هي حجر الزاوية في النجاح المدوي لمشروع الإخوان السياسي. فوراء هذا التنظيم الجبار كان يقف عقل سياسي نابه يربط بكفاءة نادرة بين الهدف والمبدأ من ناحية والإستراتيجية والتكتيكات من ناحية أخرى.

كان البنا قد قرر الانتقال من الإسماعيلية إلى القاهرة بعد اشتداد عود "الدعوة" في مدن القناة. عمل البنا، وهو حاصل على دبلوم مدرسة المعلمين وخريج دار العلوم، كمدرس في مدرسة السبتية الابتدائية. وفي 1932، استأجر مقرا صغيرا في شارع الناصرية في حي السيدة زينب ليؤسس دعوته في القاهرة عاصمة البلاد وحاضرة العالم الإسلامي.

ويذكر محمود عبد الحليم أحد قيادات الرعيل الأول للإخوان في مذكراته "الإخوان المسلمون: أحداث صنعت التاريخ"، التي يعدها البعض تأريخا شبه رسمي للجماعة، أن البنا كان يهتم اهتماما شديدا بالطلبة. كتب عبد الحليم: "يخيل إلي أن انتقاله ]أي البنا[للقاهرة كان أهم دوافعه أن يكون في الموقع الذي يمكنه من الاتصال بالجامعة."

وبالفعل، فإن دعوة الإخوان المسلمين لاقت نجاحا كبيرا في أوساط الطلاب. حيث كون البنا "لجنة الطلبة" وأعطاها كل الاهتمام حتى تصبح قادرة على جذب أعضاء جدد يكونون بمثابة الجسر الذي تنتقل عليه "الدعوة" إلى كل ربوع القطر. فطلاب الجامعة، وهي الوحيدة في مصر آنذاك، يأتلفون من كل المديريات ويعودون إلى بلدانهم في شهور الصيف، مما يمكنهم من نشر الدعوة على أوسع نطاق ممكن.

التدرج

وفي هذا المجتمع الإخواني المكون من الطلاب والمدرسين والموظفين والتجار المتوسطين، رسم البنا إستراتيجية لنشر الفكرة الإسلامية في مصر وما وراءها. ويمكن، بقدر قليل من الاختزال، وصف إستراتيجية البنا، كما يراها هو، على أنها: تدرجية إصلاحية ساعية في نهاية المطاف إلى تمكين الإسلام، ممثلا في جماعة الإخوان المسلمين نفسها، ليحكم العالم وتعود دولة الخلافة التي كانت قد سقطت قبل سنوات قليلة.

انطلقت رؤية البنا من تصور تدريجي لبناء النفوذ الثقافي والاجتماعي للرؤية الإسلامية، وذلك كتمهيد لبناء النفوذ السياسي الذي سيأخد، حين تنضج الظروف، شكل الحكم الإسلامي. فمن الفرد المسلم، إلى الأسرة المسلمة، إلى المجتمع المسلم، إلى الدولة المسلمة، إلى الحكومة المسلمة، إلى الخلافة الإسلامية، إلى أستاذية العالم يتدرج مشروع الإخوان عبر عملية صبورة للتمكين لا تتعجل النصر النهائي ولا تستبق الأحداث.

يقول البنا في رسالة المؤتمر الخامس: "أيها الإخوان المسلمون وبخاصة المتحمسون المتعجلون منكم... إن طريقكم هذا مرسومة خطواته موضوعة حدوده. ولست مخالفا هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول. أجل قد تكون طريقا طويلة ولكن ليس هناك غيرها... فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك بحال."

ويحكي محمود عبد الحليم قصة تكشف المعنى العملي لفكرة التدرج في إستراتيجية الإخوان. إذ يذكر أنه في عام 1937 هاجمت جماعة مصر الفتاة عددا من الحانات في القاهرة وحطمت واجهاتها، وأنها بهذا قصدت التفاخر على الإخوان وإبراز كونها أكثر إسلامية من الأخيرين.

يحكي عبد الحليم أنه قرر كتابة مقال يرد به كيد مصر الفتاة ويوضح طبيعة دعوة الإخوان. في هذا المقال أكد الرجل أن "الدعوة الإسلامية باعتبارها دعوة الخلود لا تعتمد في خطواتها على الارتجال أو الطفرة، وإنما تعتمد على أساليب رصينة تتمشى مع العقل وتخضع للنواميس الكونية... لو أن رسول الله كبُر عليه أن تعبد الأصنام وهو يصلي في الكعبة وحاول تحطيمها في أول دعوته، فماذا عسى أن يكون قد حدث له ولدعوته؟ إنه كان سيقتل هو ومن معه وتقتل دعوته وهي في مهدها."

الإصلاح

أما إصلاحية دعوة الإخوان، فلها على الأقل معنيين. معنى إيجابي، وهو الذي يقصده البنا نفسه حين يقول إن فكرة الإخوان: "شملت كل نواحي الإصلاح في الأمة، وتمثلت فيها كل عناصر غيرها من الفكر الإصلاحية، وأصبح كل مصلح مخلص غيور يجد فيها أمنيته، والتقت عندها آمال محبي الإصلاح الذين عرفوها وفهموا مراميها."

أما المعنى السلبي، فهو الذي يقصده نقاد الإخوان الذين يرون الأخيرين ضد الثورة رافضين لأي تغيير جذري، وهو أمر طبيعي في ضوء الرؤية التدرجية للتغيير التي رأينا أن البنا حرص أشد الحرص على غرسها في قلوب أتباعه. فالإخوان في سعيهم الإصلاحي لم يجدوا غضاضة في كيل المديح لمليك البلاد فاروق في محاولة لإظهار ولاءهم له، أو في تأييد حكومات النقراشي وصدقي لبعض الوقت، أو في التنازل عن خوض الانتخابات البرلمانية عام 1942 "تقديرا لظروف البلاد".

ويعلن البنا بكل وضوح موقفه من "الثورة" على النحو الآتي: "وأما الثورة فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها ولا يعتمدون عليها ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها وإن كانوا يصارحون كل حكومة في مصر أن الحال إذا ما دامت علي هذا المنوال ولم يفكر أولي الأمر في إصلاح عاجل وعلاج سريع لهذه المشاكل، فسيؤدي ذلك حتما إلي ثورة ليست من عمل الإخوان ولا من دعوتهم ولكن من ضغط الظروف ومقتضيات الأحوال."

غموض

امتزجت إستراتيجية البنا التدرجية الإصلاحية، التي نالت مدح الكثيرين لـ"عقلانيتها"، بحالة من الغموض الفكري ونزعة عملية لا يمكن أن تخطئها العين، فأنتجت ظاهرة حارت عقول كثيرة في فهم تقلباتها، وأسست لتعددية الفكرية، من ثم لنزاعات تنظيمية، شهدتها الحركة في مراحل كثيرة من عمرها .

فعلى المستوى الديني المحض، أصر البنا على مدى سنوات عمره ألا يُدخل الإخوان في نزاعات فقهية قد تهدد وحدة الجماعة. "حسب الناس أن يجتمعوا على ما يصير به المسلم مسلما"، هذا ما كان يردده البنا بإصرار باعتبار أن "هذه النظرة ضرورية لجماعة تريد أن تنشر فكرة في بلد لم تهدأ بعد فيه ثائرة الخلاف على أمور لا معنى للجدل ولا للخلاف فيها".

أما على المستوى الدعوي الاجتماعي الثقافي، فالبنا لم يلتفت أبدا إلى الانقسام الطبقي الفادح في البلاد، ولا إلى تشرذم المجتمع إلى مصالح متعارضة وقوى متنافسة، مؤكدا أن "دعوة الإخوان المسلمين دعوة عامة لا تنتسب إلى طائفة خاصة، ولا تنحاز إلى رأي عرف عند الناس بلون خاص ومستلزمات وتوابع خاصة".

هذا بالضبط ما سمح للبنا أن يتقلب، بجرأة عملية يحسد عليها، بين مواقف أقل ما يمكن أن توصف به هو التباين الشديد. فبما أنه يوجه دعوته إلى "الأمة" بأسرها، بفقرائها وأغنيائها، بحكامها ومحكوميها، فلا حرج من اتخاذ مواقف مع هذا الطرف أو ضد ذاك على حسب تطور الأحوال. فمن تأييد الملك إلى العداء له، ومن التقارب مع الوفد إلى الخصومة معه، ومن الانغماس في السياسة إلى النأي عنها. وما العجب في ذلك؟ أليس هو البنا من قال إن جماعته سنية، سلفية، صوفية، رياضية، اجتماعية، ثقافية، سياسية، شاملة لكل شيء وأي شيء.

وفي المجال السياسي تحديدا، ترك فكر البنا الباب مواربا لخوض الجماعة غمار العمل السياسي بشكل مباشر. فالإخوان ليسوا طلاب حكم، ولكنهم طلاب إصلاح شامل للمجتمع. لكن بما أن الإصلاح الشامل، وفق الرؤية الإسلامية الكلية، يتضمن إصلاح السياسة بالضرورة، فإنه من الممكن أن تتحول الجماعة إلى جسم سياسي إن تطلب هدف الإصلاح ذلك. يقول البنا: "الإخوان المسلمون لا يطلبون الحكم لأنفسهم فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل العبء وأداء هذه الأمانة والحكم بمنهاج إسلامي قرآني فهم جنوده وأنصاره وأعوانه، وإن لم يجدوا فالحكم من منهاجهم وسيعملون لاستخلاصه من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله."

هكذا شيد البنا، بعبقرية غير منكورة، صرحا تنظيميا دعويا كبيرا عاش بعده عقودا طوال. ومن حيث استمد هذا الصرح قوته كانت تأتيه الضربات. فالإصلاحية والغموض سمحا للحركة بالنمو المبهر الذي شهدته في عصر البنا. لكنهما كذلك كانا أساس التقلب والتردد اللذان أصاباها حين جد الجد وتغيرت الأحوال. فكان أن سقطت الجماعة، بلا مقاومة تقريبا، صريعة في معركتها مع العسكر في 1954.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية