كان للرعاية الإلهية للنبى دور مهم فى بناء شخصيته وتأهيله لحمل الرسالة وتبليغها، وحددت هذه الرعاية معالم شخصيته، بدأت هذه الرعاية من والدته وحتى اكتمل هذا الإعداد عند بلوغه سن الأربعين، فكانت شخصيته سوية متفاعلة مؤثرة مقدرة لذاتها ذات تفكير مستنير، قادرة على الإبداع وحلا لمشكلات وتجاوز العقبات.
لئن كان البشر الآن بعد اختراع الطائرات والصواريخ يستوعبون فكرة الانتقال من مكة إلى بيت المقدس فى جزء من الليل؛ فإن الانتقال من الأرض إلى السماء الدنيا، ثم اختراقها إلى ما بعدها، يظلُّ أمرًا لا ترقى إليه أحلام العلماء، ولا يُسْتَوْعَب عندهم بحال؛ ومن ثَمَّ صار الإيمان به وتصديقه دليلاً واضحًا على قناعة المسلم بقدرة ربِّ العالمين، وصدق رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم؛ لذلك لم يقص رسول الله قصة المعراج على عموم أهل مكة؛ إنما اكتفى بحكايتها للمؤمنين، فهم وحدهم الذين سيستفيدون من سماع هذه القصة العجيبة.
ومع هذا فقد كان من الخطأ البين الادعاء بأن سيدنا محمد قد دعى إلى الحضرة الإلهية من غير تأهيل وإعداد، بل كان التأهيل عنوان هذه الرحلة السماوية بدليل مادى محسوس وملموس، ذلك أنه قد شق صدره الشريف أربع مرات، الأولى فى طفولته، والثانية فى شبابه، والثالثة فى مبعثه، والرابعة فى ليلة المعراج حين أخرج قلبه وغسله بماء زمزم وملأه إيمانا وحكمه ثم أطبقه، حتى إن أنس بن مالك كان يقول: وكنت أرى أثر المخيط فى صدره الشريف! ولكل منها حكمة إلهية، على أن المرة الرابعة كانت لأجل الحضرة والمناجاة.
والدليل على ذلك أن جبريل بداية أن نزل على رسول الله بالقرآن (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ ) قال النبى حينها: زملونى زملونى دثرونى دثروني، لأنه ضعيف لم يتحمل قوة جبريل، أما فى ليلة المعراج فتبدلت الأحوال والأوصاف، فعند سدرة المنتهى يتوقف جبريل ليقول: (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ) مظهرا عجزه وضعفه: (إن تقدمت اخترقت وإن تقدمت احترقت)، إذن صار جبريل ضعيفا ومحمد قويا، مما يؤكد صدق ادعاء التأهيل للمناجاة والرؤية. وتلمح ذلك المعنى جليا بين قوله تعالى لنبيه موسى لما طلب الرؤية: (لن تراني) وقوله: (يَا مُوسَى إِنِّى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِى وَبِكَلَامِى فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ)، أي: لا تطلب ما ليس لك، كما أنك لم تؤهل لذلك بدليل فعل الجبل حين صار دكا وخر موسى صعقا !. وما ذلك إلا لأننا تعودنا فى رؤية تفاصيل حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملاحظة مبدأ احترام الأسباب، والأخذ بها.