رمز من رموز مصر، سيظل اسمه عاليا خفاقا بين رجال السياسة الذين قدموا حياتهم من اجلها، فهو ملحمة عطاء سياسي نادر فى ظروف حالكة، واكتسب شعبية جارفة بين المصريين، فهو الزعيم الوحيد الذي واجه القصر في عهد فؤاد ومن بعده فاروق، وكذلك فهو الوحيد الذي أقاله القصر من أربع مرات من مجموع الوزارات التي ألفها.
ولد مصطفى النحاس فى 15 يونيو 1879 في سمنود بمحافظة الغربية، لأسرة متوسطة الحال فقد كان والده يعمل فى تجارة الأخشاب ولديه مغلق خشب صغير، التحق النحاس بكتاب القرية صغيرا فحفظ القرآن وتعلم القراءة والكتابة ومبادئ الحساب، إلا أن والده لم يكتف بهذا فكلف أحد المدرسين لتعليمه اللغة الفرنسية، وعندما بلغ العاشرة من عمره ألحقه والده بمكتب تلغراف سمنود بعد أن شُغف الصغير بذلك الجهاز الآلي الذي يستخدمه "عبدالحميد حافظ أفندي" لإرسال الإشارات، واستطاع أن يحفظ الإشارات في سرعة كبيرة، وكان من الممكن أن يظل به لولا أن القدر ساق إليه الوجيه محمد صالح باشا أحد كبار المستشارين فى مصر والذى شاهده فى مكتب التلغراف واكتشف ما يتمتع به من ذكاء حاد، وأقنع والده ان يذهب به إلى القاهرة ليلتحق بأحد المدارس الابتدائية هناك.
وتم ذلك فعلا والتحق فتى سمنود بالمدرسة الناصرية الابتدائية بالقسم الداخلي عام 1890، وامتحنه الناظر ليحدد السنة الدراسية لمستواه، وبالفعل لحق بتلاميذ الصف الثاني وكان عليه أن يبذل مجهوداً أكبر من زملائه حيث بقي على نهاية السنة الدراسية ثلاثة أشهر، واستطاع التفوق عليهم، وسُمح له بالإعفاء من مصروفات القسم الداخلى هو وزميله محمد فهمي ياقوت لتفوقهم بناء على طلب أمين باشا سامي.
انتقل الى الخديوية الثانوية عام 1892 واستمر تفوقه فيها، ورفض رغبة اللورد كتشنر في نقل عدد من طلاب المدرسة إلى المدرسة الحربية وعندما حاول الموظف إقناعه أن طلاب المجانية لابد أن يلتحقوا بالحربية رد عليه النحاس قائلاً: (ما طلبت أنا المجانية عن فاقة، ولا سألتها عن عوز؛ ولكن ناظر المدرسة هو الذي شاء ذلك مكافأة للمتقدمين، وجزاء للمتفوقين).
أنهى المرحلة الثانوية بتفوق، والتحق بكلية الحقوق محققا تفوقا فى جميع مراحله الدراسيه، وحصل على الليسانس 1900، تزعم زملاءه لرفض العمل كـ "كتبة" في النيابات بمرتب خمسة جنيهات، فاجتمع به وكيل مدرسة الحقوق وبعض الموظفين الإنجليز ومندوب الوكالة البريطانية ليعرفوا أسباب احتجاجهم ومطالبهم، ونجح بعد مداولات طويلة في اقناعهم بتعيين الخريجين في وظيفة "معاون نيابة" بمرتب عشرة جنيهات، ولم يقبل بهذه الوظيفة حيث إن كل همه كان زملاءه، واتجه إلى العمل الحر.
بدأ مشواره فى المحاماه بمكتب السيد محمد فريد زعيم الحزب الوطني خلفا لمصطفى كامل ولم تدم فترة العمل معه طويلا فقد قرر النحاس الانفصال وفتح مكتبا فى المنصوره لمباشرة القضايا الأهلية والشرعية والمختلطه وظهرت مواهبه فى المحاماه مبكرا مما دفع عبدالخالق باشا ثروت مدير إدارة المحاكم بوزارة الحقانية لاختياره قاضيا فى محكمة قنا عام 1903، وظل يعمل بها قرابة 6 سنوات ثم نقل إلى الوجه البحرى وعمل فى القاهرة وطنطا لمدة تصل إلى 9 سنوات كان فيها مثالا للقاضي النزيه العادل.
لقاء العمالقة
بداية التعارف بين الزعيمان الكبيران سعد زغلول ومصطفى النحاس فى 1909 كان وقتها النحاس عضو بالحزب الوطنى.
قضى مصطفى النحاس 15 سنه فى القضاء ضاربا أروع الأمثلة على النزاهة والتمسك بالعدل والحق الذى كان عنده قدس الأقداس، دخل ميدان السياسة بدافع من وطنيته الصادقة وايمانا منه بحق مصر فى الحرية والاستقلال .
بدأ سعد زغلول يؤلف الوفد المصرى فى نوفمبر 1918 استعدادا للسفر الى بريطانيا، كان النحاس أحد ثلاثة من المنتمين إلى الحزب الوطنى الذى وقع عليهم الاختيار ليكونوا ضمن أعضاء الوفد، ومنذ ذلك الوقت أصبح النحاس سكرتيرا عاما للوفد ملازما لسعد يأخذ ويتزود منه، وكان أقرب الشخصيات لقلب سعد لقوة شخصيته وذكائه وشهرته القانونيه، ولذلك اختير الرجل الأول للوفد بعد سعد.
قدم النحاس استقالته من منصب القاضى ليتفرغ للقضية الوطنية بعد اندلاع ثورة 1919، وعاد مرة أخرى للمحاماه لتكون مصدر رزق لأسرته، وعندما اعتقلت السلطات سعد والنحاس وآخرين ونفتهم الى جزيرة (سيشل) إلا أن الثورة لم تهدأ وأمام تلك الثورة العارمة قررت إنجلترا أن تطلق سراح المعتقلين؛ بل ومنحت مصر دستور 1923 وهو الدستور الذى جعل السلطة للشعب وليست للملك.
وبعد وفاة سعد فى 23 أغسطس 1927 اجتمع الوفد واختاروا مصطفى النحاس رئيسا لحزب الوفد وأصبح منذ ذلك الوقت زعيما للأمة .
وفى 17 نوفمبر من نفس العام عند افتتاح الدورة البرلمانية الجديدة لمجلس الأمة، انتخب النحاس رئيسا للمجلس خلفا لسعد وقام النحاس بتشكيل الوزارة سبع مرات كانت أولها فى 16 مارس 1928 وكانت ائتلافيه ولم تدم طويلا إذ انحلت بعد ثلاثة أشهر من تكوينها، أما الوزارة الثانية فكانت فى يناير 1930، الثالثة فى 9 مايو 1936 ثم تشكلت الوزارة للمرة الرابعة أغسطس 1937، الخامسة فى 4 فبراير 1942 أما الوزارة السادسة في 26 مايو 1942، والأخيرة تشكلت فى 12 يناير 1950 وأقيلت فى 27 يناير 1952 على إثر حريق القاهرة.
تعرض النحاس إلى 6 محاولات اغتيال كان أولها عام 1930 بالمنصورة أما المحاولة الأخيرة فكانت فى نوفمبر 1948.
وقدم النحاس لمصر في فترة حكمة المتقطعة الكثير، حيث نشطت في عهده حركة الكفاح ضد الاحتلال في منطقة القناة وسمحت الحكومة الوفدية لهم بحمل السلاح، ورفضت حكومته مقترحات الدول الأربع أن تكون القناة قاعدة لهم، إنشاء مجلس الدولة، وديوان المحاسبة، وديوان الموظفين، وأصدر قانون استقلال القضاء، أقر مجانية التعليم الابتدائي والثانوي، والمجانية الفعلية للتعليم الجامعى وعدم حرمان أي طالب من الامتحان بسبب المصروفات، إنشاء وزارة الاقتصاد الوطني واهتم بالتصنيع والاقتصاد الزراعى، شهدت الصحافة في عهده حرية لم تسبق أن شهدتها في حكومات أخرى، استمر في كفاحة من أجل حماية الدستور، وغيرها من إنجازات لحكومات ترأسها.
ولم يتبق من تاريخ النحاس سوى معاهدة 1936 الذى وقعها مع الإنجليز والتى نال بسببها نقدًا لاذعًا من السياسيين والأحزاب، إلا أن الحقيقة ان النحاس نفسه انتقد المعاهدة التى سبق أن وقعها، ألقى بيانًا داخل مجلس النواب والشيوخ بصفته رئيس وزراء مصر فى 8 يناير 1951 قال فيه : (من أجل مصر وقعت معاهدة 1936 ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها فهي غنم للإنجليز وغرق لمصر وتم إلغاؤها فعلا).
وفي 23 أغسطس 1965 رحل عن عالمنا مصطفى النحاس عن عمر 85 عاما فى الإسكندرية ثم نقل الجثمان إلى القاهرة فى جنازه شعبيه مهيبه اخترقت شوارع القاهرة من جاردن سيتى الى ميدان العتبة وشارع الأزهر وميدان الحسين وردد مشيعى الجنازة (ماتت من بعدك الزعامة يا نحاس) وطويت بذلك صفحة لرجل من صفوة من أنجبت مصر من رجال السياسة فى القرن العشرين.