رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

أفكار لها تاريخ (9)
ماذا بين تل أبيب وأورشليم؟

ليس فى إمكان أحد أن يتجاهل الصراع الحاد بين الأصولية والعلمانية فى هذا الزمان إذ إن الأولى تفكر بالمطلق والثانية تفكر بالنسبي. واسرائيل نموذج لهذا الصراع باعتبار أن الدول العربية ليست كذلك لأن بها أصوليات حادة إلى الحد الذى فيه تغتال بفتاوى دينية كل مَنْ يتجاسر ويدعو إلى العلمانية. وإليك الدليل على صحة رأيى مما حكاه الروائى الاسرائيلى المشهور عاموس إيلون فى كتابه المعنون أورشليم مدينة المرايا وفيه يقارن بين تل أبيب وأورشليم مستشهدا بأقوال قيلت عن كل منهما. فماذا قيل عن أورشليم؟ قيل إنها البيت الذى تذبح فيه الأديان ومن هنا قيل إنها مدينة خطيرة ولكن قيل أيضا إنها مدينة الحجاج. ومغزى القولين أنها مدينة واحدة ولكنها فى حالة تناقض. وبسبب هذا التناقض كانت موضع سخرية. قال فولتير: أشكر الله أننى لم أذهب إلى يهودا ولن أذهب مادمت حيا. وفى النصف الأول من القرن التاسع عشر قال الحجاج الأوروبيون إن أورشليم تعيش فى العصور الوسطى حيث يقتل المؤمنون الملاحدة من أجل المحافظة على الايمان. واليوم أورشليم مقسمة إلى أربعة أحياء حى الحداثة وحى اليهود وحى المسيحيين وحى الأرمن. وأنت عندما تعبر من حى إلى آخر فانك تشعر بالغربة. فكل من هذه الأحياء له دين ولغة. واللغات المتداولة: العبرية والعربية والانجليزية والفرنسية والروسية والإثيوبية والأشورية. أما الملل فإنها تتلامس دون أن تتعانق والهواء معبأ بالعداوة ولهذا فالألفة ليست واردة. والجدير بالتنويه هنا ثلاث ظواهر مؤلمة للغاية. الظاهرة الأولى أن المسلمين يرفضون القول إنهم يقيمون فى أحد الأحياء الأربعة لأن هذه كلها حى واحد اسمه أورشليم. والظاهرة الثانية أن العلاقة بين الفلسطينيين والاسرائيليين هى علاقة انفصال تام. أما الظاهرة الثالثة فتكمن فى أن الحى اليهودى منقسم على ذاته بين العلمانيين والأصوليين، . هذا بالإضافة إلى أن الأصوليين لا يعترفون بدولة وبالتالى يرفضون الخدمة العسكرية. وحائط المبكى، فى رأيهم، يرمز إلى تدمير اسرائيل ف ومن هنا يلزم استعادتها، كما أنه تحول مع الزمن إلى معبد وفيه يعبد الشعب ذاته بديلا عن الله باعتبار أنه شعب الله المختار. ومن هنا كان للتيار العقلانى اليهودى تحفظات على أورشليم. ففى عام 1930 بعث فرويد برسالة إلى صديقه أينشتين جاء فيها أن ليس لديه أى تعاطف مع عبادة سيئة يكون من شأنها تحويل جزء من حائط إلى دين. ومع ذلك فإن فرويد ذاته كان لديه تعاطف مع العالم اليهودى إلى الحد الذى فكر فيه أن يقيم فى فلسطين وكان ذلك فى عام 1922. وبعد ذلك بعث برسالة إلى صديقه الروائى أرنولد زفايج جاء فيها: كيف تراءت لك هذه الأرض المجنونة التى كنت قد زرتها. إنها لم تنتج سوى أديان وهذيانات نقول عنها إنها مقدسة وتقوم بمحاولات تتسم بالغرور للتغلب على شرور هذا العالم الخارجى بعالم داخلى ليس فيه إلا آمال لا تصلح لأى إنجاز عملى ثم نهلل فرحا. وقد شاركه فى هذه المشاعر الصهيونيون الأوائل الذين كان كل همهم إنقاذ الحضارة الأوروبية من الدمار. وكانوا فى ذلك علمانيين لا ينشغلون إلا برؤى مستقبلية. أما أورشليم، فى رأيهم، فكانت تجسيدا للخرافات والتخلف. وكان هذا هو رأى تيودور هرتزل مؤسس الصهيونية الحديثة. وقال حاييم ويزمان أول رئيس منتخب لدولة اسرائيل: إن الدولة اليهودية لن تتكون إلا من الأجزاء التى تلتزم بالحداثة أما ما يتبقى بعد ذلك فلن أقبله حتى لوجاء على هيئة هدية. ومع ذلك فقد كانت تل أبيب هى الأفضل فى أن تكون العاصمة. والجدير بالتنويه هنا أنه منذ عام 1967 والفجوة آخذة فى الاتساع بين الفلسطينيين والاسرائيليين إلى حد رفض أى تنازلات من أجل التعايش المشترك وذلك على أمل أن يتبخر أحد الطرفين فى الهواء لأن الدين عند كل منهما هو الدولة. وقد قيل إن الصراع بينهما سيظل قائما حتى لو تم التنازل عن جزء من الأرض لأحد الطرفين. وفى هذا السياق يمكن القول إن ثمة مبادرتين متداولتين تنطوى كل منهما على تناقض فى حاجة إلى رفعه إذا أريد تحقيق السلام: المبادرة العربية: الأرض فى مقابل السلام. واتفاق ابراهيم: السلام فى مقابل السلام. والسؤال اذن: كيف يمكن رفع ذلك التناقض فى سياق التناقض القائم فى أورشليم على نحو ما ارتآه الروائى الاسرائيلى عاموس إيلون؟ للجواب عن هذا السؤال أستعين بما قلته فى أثناء لقاء جماعة كوبنهاجن مع عمدة تل أبيب فى مارس 1997 عندما أثيرت مسألة أورشليم: إن المسار شاق وطويل إذ من اللازم تأسيس تيار علمانى يؤلف بين الفلسطينيين والاسرائيليين من أجل إزاحة الأصوليات الدينية من مسرح العملية السياسية من أجل تحقيق السلام المنشود فى مدينة أورشليم. وقال العمدة: إن الفيلسوف على حق. ولم يعقب أحد على قول العمدة. حدث ذلك منذ ثلاثة وعشرين عاما. أما ما يحدث الآن من اتفاقات التطبيع مع اسرائيل فإنه يمكن أن يكون تمهيدا لتأسيس مشروع مشترك بين العرب واسرائيل اسمه المشروع العلمانى وتكون الغاية منه تغيير الذهنية لكى تتسق مع مقتضيات التطبيع.


لمزيد من مقالات د. مراد وهبة

رابط دائم: