ولما كانت الحاجة في الغرب الإسلامي إلى تكوين العناصر والأطر اللازمة لضمان استمرار الدعوة الإسلامية، وتثبيت مبادئ الدين الإسلامي بهذه البلاد، تم تأسيس جامعة القيروان أواخر القرن الأول للهجرة، وتصدى للتدريس بها عدد من العلماء المبرزين، قادمين إليها من مدارس البصرة والكوفة، وسرعان ما تحولت جامعة القيروان إلى مركز إشعاع ديني وحضاري، وسع أثره كل الغرب الإسلامي، فقصدها الطلبة من كل أنحاء البلاد، عاكفين على تعلم مبادئ العلوم الشرعية من توحيد وفقه وغيرهما، ومقبلين على تلقن مبادئ اللغة العربية وعلومها وإتقانها نطقا وكتابة.
وبنفس قدر نجاح المغاربة في تأسيس مدرسة دينية متميزة، فإنهم تمكنوا كذلك من بناء كيان حضاري ونسق ثقافي له خصوصياته التي تلائم طبائع أهل المغرب وعوائدهم الفنية والجمالية. فأرسوا منذ القرون الأولى لإسلامهم قواعد الاستثناء المغربي. ومن التجليات الواضحة لهذه الخصوصية المغربية تميز الخط المغربي الذي نشأ ضمن الإطار التاريخي للغرب الإسلامي (المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا والأندلس)، حيث تفاعلت عناصر الثقافة الأمازيغية والعربية والإفريقية والأوربية بسلاسة عبر كل مراحل تطور الدولة المغربية مشكلة قيمها الحضارية والثقافية والدينية ، إذ وافق انتشاره في البلدان الإسلامية انتشار المذهب المالكي ومتونه.
1 - نشأة الخط المغربي
2 - مراحل تطور الخط المغربي
3 - أنواع الخط المغربي
1- نشأة الخط المغربي
وصل الخط العربي إلى بلاد الغرب الإسلامي مع الفاتحين الأوائل الذين استعملوا الخط الحجازي والخط الكوفي، كما تدل على ذلك قطعة نقدية ضربت على عهد موسى بن نصير (92هـ / 711م). ثم انتشر الخط العربي بعد ذلك بسبب الحاجة إلى حفظ القرآن الكريم وكتابته، ومن أجل استمرار الدعوة الإسلامية وترسيخ قيم الدين الإسلامي ومبادئه، فأقبل أهل الغرب الإسلامي على تعلم مبادئه وإتقان أساليب كتابته، والتفنن في رسمه والإبداع في أشكاله. وكان صالح بن طريف، زعيم دولة بورغواطة (127هـ / 744م)، من أشهر من أجادوا كتابة الخط العربي في هذه المرحلة.
وتولد عن انتشار الخط الكوفي العراقي ببلدان الغرب الإسلامي الخط الكوفي القيرواني، وبعد فتح الأندلس وقيام دولة بني أمية بها، شاع استعمال الخط الكوفي المتفرع عن الخط الكوفي الشامي، وفي نفس الوقت ظهر الخط الإفريقي متفرعا عن الخط الكوفي القيرواني، وتولد عن الخط الكوفي الأندلسي الخط الأندلسي، في حين امتد الخط القيرواني إلى المغرب الأوسط والجزائر والمغرب الأقصى قبل اتصالها بالخط الأندلسي. وعلى العموم فقد توزعت حركة الخط في بلدان الغرب الإسلامي مدرستان: مدرسة الخط الإفريقي ومدرسة الخط الأندلسي، وتعد هذه الفترة بداية تمايز خطوط بلدان الغرب الإسلامي.
2 - مراحل تطور الخط المغربي
بعد فترة التمايز بين خطوط بلدان الغرب الإسلامي، شرع الخط المغربي في أخذ سماته المحلية وخصائصه الحضارية وطابعه المتفرد، وبدأت تتضح أنواعه وأساليبه وخصائصه الجمالية على حسب تطور الدولة المغربية وعهودها.
أ- العهد الإدريسي
بدأ الخط المغربي المتفرع عن الخط الكوفي في التحسن على العهد الإدريسي، وغلب عليه الطابع الشرقي إثر وصول الإمام إدريس الأول رفقة أنصاره إلى فاس، وإنشائه الدولة الإدريسية، وتأثر نتيجة ذلك الخط المحلي بالخط الكوفي العراقي الذي سكت به النقود الإدريسية.
ب- العصر المرابطي - الموحدي
ساد في الفترة المرابطية- الموحدية، استعمال الخط الأندلسي إلى جانب الخط الإفريقي الذي انحصر استعماله في مناطق بعينها، ويمكن التمييز في هذه الفترة بين نوعين من الخطوط الرئيسية: الخط الكوفي المرابطي والخط الكوفي الموحدي إلى جانب أنواع أخرى من الخطوط مثل المبسوط وخط الثلث المغربي.
ج- العصر المريني
بالرغم من التقدم الذي حققه الخط الأندلسي الذي انتشر بالمغرب وهيمنة مدرسة فاس في عموم منطقة الغرب الإسلامي في صدر الدولة المرينية، فقد بدأ الخط المغربي في العصر المريني يأخذ شكله النهائي، حيث بدا متميزا عن باقي الخطوط المتداولة في الغرب الإسلامي، وبدأت تتضح أصنافه وأنواعه وأساليبه.
د- العصر السعدي
ازدهرت في العهد السعدي الخطوط المغربية كما يتجلى في كتابة المصاحف، والآثار المعمارية، وفي الكتابة على القطع النقدية، ورافق ذلك اهتمام بالوراقة، وتعليم الخطوط، وتأسيس مدارس لتعليم فنون الخط وأساليب إجادتها.
هـ- العصر العلوي
في العصر العلوي اتضحت معالم الخطوط المغربية، وتركزت أصنافها وأنواعها، واشتهرت عدة مراكز حضرية وبدوية بإجادة الخط مثل: فاس ومكناس ومراكش والرباط وسلا، ومنطقة دكالة وبني زيان والأخماس، وجهات أخرى في شمال المغرب وجنوبه. وقد كان لظهور المطبعة الحجرية في هذه الفترة الأثر الطيب على تطور الخط المغربي، وشجع ذلك على تداوله على أوسع نطاق، فتفنن الخطاطون في كل أنواع الخطوط المغربية، وأبدعوا في إدخال تنويعات جديدة عليها، فازدهرت فنون الخط والوراقة، وبادر بعض الخطاطين المغاربة إلى الكتابة في موضوع الخط وقواعده، لضبط أساليبه وأشكاله، ووضعها رهن إشارة مريدي الخط المغربي مثل منظومة: "نظم لآلي السمط في تحسين بديع الخط" وشرحها: "حلية الكاتب ومنية الطالب" للخطاط أحمد بن قاسم الرفاعي الرباطي (1841م).
وبالرغم من هيمنة الحرف الأجنبي في مجال التعليم والحياة العامة إثر الاحتلال الفرنسي والإسباني للمغرب بداية القرن العشرين، فقد حظي الخط المغربي بالاهتمام الكبير وعملت الحركة الوطنية على تلقين الطلاب في المدارس ومؤسسات التعليم الحر مبادئ اللغة العربية والخط المغربي، فظهرت مذكرات تعليم الخط المغربي سنة 1949 في خمس كراريس وضعها محمد بن الحسين السوسي وأنطونيو كارسيا خاين. وظل الخط المغربي محط عناية الملوك العلويين الذين شجعوا الخطاطين المغاربة وضموا عددا كبيرا منهم إلى دواوينهم واستعملوهم في كتابة الرسائل والظهائر واستنساخ بعض المؤلفات النفيسة.وقد عمدت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إلى رد الاعتبار لهذا الفن بطباعة المصحف الحسني المسبع على عهد المغفور له الملك الحسن الثاني ، و برع عدد كبير من الخطاطين المغاربة في هذا الفن خلال القرنين التاسع عشر و العشرين، نذكر منهم على سبيل المثال: محمد الرفاعي( ت1841 )، ومحمد القندوسي الفاسي( ت 1861) ،وعبد الكريم سكيرج( ت1984)، وعبد السلام بناني( ت1997).
3 - أنواع الخط المغربي
استطاع الخطاطون المغاربة عبر التاريخ تمثل الخط العربي وتذوق أشكاله مدمجين ثقافتهم المحلية في إبداعاتهم الخطية، فطبعوه بروحهم وأغنوا أساليبه بأشكال هندسية مبتكرة، وزخارف ذات خصوصيات فنية وتقنية متميزة، فتعددت أنواعه؛ شأنه في ذلك شأن الخط العربي الشرقي؛ وأصبحت خمسة أنواع أساسية تستوعب تشكيلات إبداعية أخرى محلية.
أ- الخط الكوفي المغربي
هو خط هندسي بديع يتميز بخطوط مستقيمة وزوايا حادة، وهو الأصل الذي تطورت عنه أنواع الخط المغربي الأخرى. وتوجد نماذج منه مكتوبة على القطع النقدية القديمة، وعلى رق الغزال في المصاحف القديمة، وعلى منقوشات من الحجر على أبواب المدن والقصبات، وعلى الجبص في المساجد والمدارس العتيقة وقبور الملوك وأضرحة الأولياء.
ب- الخط المبسوط
عرف بأحرفه الواطئة المبسوطة، ويتميز بالوضوح وسهولة القراءة، وهو أعلى مراتب الخط المغربي، وأكثرها راحة للعين. ويستعمل في كتابة المصاحف، وكتب الأدعية والصلوات، وكتبت به أهم المصاحف المطبوعة بالمطبعة الحجرية، ومصحف الوراق والمصحف الحسني، والمصحف الحسني المسبع.
ج- الخط المجوهر
تمتاز حروف الخط المجوهر بالصغر والتقارب، وتفرع هذا الخط عن خط المبسوط في حدود القرن السادس الهجري، وهو الأكثر استعمالا في الحياة العامة، وخصوصا في الرسائل والظهائر السلطانية وفي جل المؤلفات المخطوطة، ويستعمل في استنساخ بعض الوثائق المهمة.
د- خط الثلث المغربي
اقتبس خط الثلث المغربي من الثلث المشرقي، ويمتاز الثلث المغربي بليونته وانسياب حروفه، وإمكانياته غير المحدودة في التشكيل، وفي تطويع صور الحروف تبعا لمعايير جمالية وبصرية يقتضيها توزيع الفضاء، وأكثر ما يستعمل الثلث المغربي للتزيين في الفنون المعمارية مثل زخرفة المساجد والأضرحة والمساجد والمدارس العتيقة.
هـ- الخط المسند
يعرف الخط المسند بالخط الزمامي وأيضا بخط العدول، وينحدر من الخط المجوهر، وكان يستعمل في كتابة الوثائق العدلية والعقود، وهو خط سريع يستعمل في التقاييد الشخصية، ولا يستعمل إلا نادرا في الكتب العلمية، ويعد من أصعب الخطوط المغربية في القراءة.
وعلى العموم ظلت الخطوط المغربية متألقة بقيمتها الحضارية والفنية الجمالية، حيث تزخر الخزانات المغربية بمجموعة من المخطوطات والوثائق التي يتجاور فيها المضمون الروحي الراقي والشكل الفني البديع يوجز ببلاغة وبيان سمو الدين الإسلامي الحنيف ورقي القيم الحضارية والفنية التي تحفل بها بلاد المغرب، نذكر منها على سبيل المثال: مخطوطة: "دلائل الخيرات ومشارق الأنوار في الصلاة على النبي المختار" لمحمد ابن سليمان الجزولي ومخطوطة "كتاب الشفاء بتعريف حقوق المصطفى" للقاضي عياض.
وقد استثمر عدد من الفنانين التشكيليين، والحرفيين المغاربة مرونة الخطوط المغربية وتنويعاتها الجميلة التي تتيح إمكانيات غير محدودة للإبداع،ووظفوا الحرف العربي عنصرا من عناصر تشكيل لوحاتهم الفنية ورسوماتهم وتزاويقهم ونقوشهم على الخشب والجبس والحجر المعادن،فخلفوا تحفا فنية ستظل شاهدة على جمال الخط المغربي وقيمته الفنية.