إحدى السمات الأبرز في السياسة الخارجية الأمريكية حيال الشرق الأوسط في الآونة الأخيرة هي أنها غالباً ما بدت منقطعة عن الوقائع الراهنة، إلى درجة أنه يمكن القول بأنه عفا عليها الزمن، لابل تصل ربما إلى حدّ الغرابة. فعلى سبيل المثال، أصرّت الولايات المتحدة على الدفع باتجاه مفاوضات إسرائيلية- فلسطينية على الرغم من الحقائق على الأرض ولاسيما أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لم يكن مهتمّاً بالتوصّل إلى اتفاق وأن الرئيس الفلسطيني محمود عباس كان مستضعفاً جداً بسبب الشقاق بين حركتَي "فتح" و"حماس"، إلى درجة أنه كان عاجزاً عن التوصّل إلى اتفاق حتى لو قُدِّم له عرض جيّد. والمثل الأحدث عن هذا الانقطاع عن الواقع هو الدعوات الأمريكية من أجل "الإصلاح" و"الحوار الوطني" في مصر رداً على تصاعد الاحتجاجات.

الإصلاح؟ أرجو المعذرة، الوقت المناسب للدعوة إلى الإصلاح كان قبل عام أو خمسة أعوام أو عشرة أعوام. لم يعد المصريون يريدون من الرئيس مبارك أن يُصلح شيئاً؛ فهم بكل بساطة لم يعودوا يريدون مبارك وأمثاله. لقد فات أوان الإصلاح السياسي من أعلى الهرم إلى أسفله في مصر الآن، ونشهد بدلاً منه تغييراً من الأسفل إلى الأعلى، مع ما يترتّب على ذلك من مخاطر كثيرة.

كيف انتقل المصريون من المطالبة بإصلاح سياسي تدريجي وسلمي إلى السعي إلى إطاحة قائدهم بكل الوسائل الممكنة؟ لم يحصل ذلك بين ليلة وضحاها. ففكرة الإصلاح فقدت في الأعوام الخمسة الأخيرة مصداقيتها، فيما راح مبارك والمحيطون به يتلاعبون بمفهوم الإصلاح بوقاحة من أجل فرض رأسمالية المحسوبيات على طريقتهم الخاصة، فيما هم يُعطِّلون أي تحسين في الحرّيات المدنية أو توسّع حقيقي في جبهة المعارضة السياسية. أتاح مبارك متنفّساً صغيراً في الانتخابات النيابية العام 2005، لكنّه أعقبه بقمع شديد لجماعة "الإخوان المسلمين" وأيمن نور الذي تجرّأ على خوض حملة حقيقية ضدّه. والتعهّد الذي قطعه مبارك العام 2005 برعاية إصلاحات دستورية وفى به العام 2007 إنما بصورة مضرّة جداً، إذ دفع باتّجاه إقرار تعديلات زادت إلى حد كبير من القيود المفروضة أصلاً على الحقوق السياسية وحقوق الإنسان في مصر.

في الواقع، لم ينجح مبارك في تجريد فكرة الإصلاح من مصداقيتها وحسب، بل أجهز أيضاً على الآليات السياسية الرسمية. ولم يلحق الضرر بالأحزاب المعارضة المرخَّصة التي استوعبها النظام منذ وقت طويل، بل حدّ أيضاً من تأثير الحركات المقموعة مثل "الإخوان المسلمين". ففي الأعوام القليلة الماضية، اتّضح أن الشبّان المصريين لم يعودوا يؤمنون بهذه التنظيمات المعارضة، وراحوا يشكّلون بدلاً من ذلك حركات أوسع نطاقاً وأقل تبلوراً ليست لديها أي نيّة بالمشاركة في السياسة الرسمية الفاسدة.

ولعل القشّة التي قصمت ظهر البعير كانت الانتخابات التشريعية المزوَّرة التي أجريت في نوفمبر/تشرين الثاني 2010 عندما استعمل الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم مختلف أشكال الفساد والمراوغة السياسية لاستبعاد كل مرشّحي المعارضة تقريباً من الانتخابات، ثم وصل به الأمر إلى حد التبجّح بأن سياسات الحزب الناجحة نالت دعم الناخبين. وبحلول مطلع ديسمبر/كانون الأول 2010، كان وقود الأزمة قد أصبح جاهزاً؛ وفجأةً أشعل شاب في تونس البعيدة عود ثقاب.

وماذا كانت الولايات المتحدة تفعل طيلة هذا الوقت، في حين أنه كان يمكنها أن تحاول بصدق أكبر إقناع مبارك بإجراء إصلاحات – أو على الأقل أن تُظهِر للشعب المصري أنها تدعم مطالبه المشروعة؟ لفترة وجيزة، وتحديداً من 2002 إلى 2005، كانت إدارة الرئيس جورج دبليو بوش تثير باستمرار تقريباً مع مبارك الحاجة إلى الإصلاح السياسي، وألمّحت إلى أن الولايات المتحدة لن تحافظ على علاقاتها الوثيقة مع مصر إلا إذا أصغى الرئيس مبارك إلى نداءات المجتمع الأهلي والتنظيمات المعارضة التي تطالب بتعزيز الحريات السياسية واحترام حقوق الإنسان، وكذلك بتطبيق الإصلاحات الاقتصادية الضرورية لتحسين الازدهار. وذهبت إدارة بوش إلى حد فرض بعض العقوبات على مبارك، فسحبت تعهّداً بتقديم مساعدات إضافية تفوق قيمتها 130 مليون دولار العام 2003، ثم قطعت محادثات التجارة الحرّة في مطلع العام 2006 ردّاً على الإجراءات القمعية التي اتّخذها مبارك ضد معارضين سلميين.

لكن في مطلع العام 2006، تراجعت إدارة بوش عن ممارسة ضغوط على مبارك، بعد أن فشلت جهودها في تحقيق ثمار كثيرة، وبعد أن واجهت الأزمات المتصاعدة في فلسطين والعراق. وفي السنتَين التاليتين، كان بوش يُزعج مبارك باستمرار بالحديث عن ضرورة نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، وزادت إدارته الإنفاق على برامج الديمقراطية في مصر، لكن من الواضح أن الرياح جرت بما لا تشتهيه سفن "أجندة الحرية". فقد فرض مبارك إجراءات قمعية، وأقصى المعارضة من الانتخابات المحلية، من دون أن تترتّب عن ذلك أي تداعيات فعلية على علاقته مع الولايات المتحدة.

وفي بداية عهد أوباما، انكفأ أكثر فأكثر الدعم الأمريكي للديمقراطية في مصر، في محاولة غير حكيمة لتلطيف العلاقات من جديد مع مبارك في مطلع العام 2009، عبر التخلّي عن كل الإشارات إلى حقوق الإنسان أو الديمقراطية في التصريحات عن مصر، وإعادة النظر في سياسات المساعدة على نشر الديمقراطية وذلك بهدف استرضائه. لكنّ الإدارة الأمريكية عدّلت موقفها تدريجاً وطوّرت في السنتين اللاحقتين خطابها حول دور حقوق الإنسان والديمقراطية وأهمّيتهما في السياسة الخارجية. وبدأ المسؤولون، وبينهم أوباما، يثيرون مع مبارك الحاجة إلى اتّخاذ بعض الخطوات مثل رفع حال الطوارئ التي تحكم مصر منذ العام 1981، والسماح للمراقبين المحليين والدوليين بمراقبة الانتخابات. بيد أن مبارك صدّ أوباما كلياً، واكتفت الإدارة الأمريكية الراغبة في الحفاظ على علاقة إيجابية ومهذَّبة معه، بإصدار بعض التصريحات العامة الملطَّفة في انتقاداتها، فيما راحت تضرب كفاً بكف وهي تفكّر في سرّها في الطريقة التي يجب أن تتعاطى بها مع الأمور. لكن من الواضح أن الولايات المتحدة كانت بعيدة جداً عن مواكبة مايدور في مصر.

أما الآن فعلى المسؤولين الأمريكيين أن يبادروا بسرعة كبيرة إلى استنباط خطاب وسياسات تُظهِر أنهم دعموا المطالب المشروعة للمصريين منذ البداية، وأنّهم يؤيّدون بالكامل الدمقرطة في مصر. لن يكون هذا سهلاً، لأن الخبر السيّئ هو أن المصريين تابعوا عن كثب السياسة الأمريكية في التعامل مع هذه المسائل ويدركون تماماً أن الولايات المتحدة لم تُبدِ أي تماسك أو فعالية أو جدّية في ترويج الإصلاح الحقيقي عندما كان هذا الإصلاح لايزال ممكناً.

إذا أرادت إدراة أوباما أن تُثبت أنها جادّة بشأن احترام الحرية السياسية وحقوق الإنسان، فعليها أن تبدّل بسرعة أسلوبها في التعاطي مع مصر. ولأجل ذلك، ينبغي عليها أن تستمرّ في الدعوة إلى انتقال منظَّم إلى انتخابات رئاسية ونيابية ديمقراطية، لكن يجب أن تكفّ عن التلميح إلى أنها تتصوّر بقاء مبارك (أو نائبه الجديد غير الشعبي) في السلطة. على الولايات المتحدة أن تشجِّع سراً الحكومة المصرية على الشروع في مفاوضات على الفور مع لجنة المعارضة التي يرأسها محمد البرادعي. ويجب أن تعلن في السر وعلى الملأ أنها ستوقف كل المساعدات الأمريكية إذا فشلت الحكومة المصرية في التفاوض على مرحلة انتقالية أو لجأت إلى العنف ضد المتظاهرين. لن تؤدّي مراعاة النظام المصري الآن سوى إلى الإمعان في أخطاء السياسات السابقة وتقويض المصالح الأمريكية أكثر فأكثر.