سينمات
أرسل الى صديق طباعة Share article
عذابات سجن ابو غريب
آخر تحديث : الخميس 23 فبراير 2012   13:04 مكة المكرمة


الأذلال ايقونة العصر العولمي الجديد

طاهر علوان


"اريد ان اظهر الحقيقة المرعبة الكامنة خلف ظاهر الأشياء " بهذه الكلمات يتحدث المخرج الكبير "ايرول موريس " عن مغامرته في اخراج هذا الفيلم والوقت الطويل الذي استغرقه في انتاجه ووقوف شركة عملاقة هي شركة سوني وراء انتاجه على اعتباره  انتاجا ضخما يخرجه الفائز بأوسكار احسن فيلم وثائقي عام 2003 عن فيلمه "ضباب الحرب" ...كلماته تجد صداها في شكل فيلمي مختلف لقضية اشكالية هزت الرأي العام الأمريكي والعالمي ومازالت صور ابو غريب وقد تحولت الى ايقونات شاهدة على عصر عولمي جديد من الهيمينة قائم على الأذلال الذي عبرت عنه فضائع السجن والأنتهاكات الفاضحة التي ارتكبت فيه من وجهة نظر القانون الجنائي ولوائح وقوانين حقوق الأنسان .
يتعامل موريس مع "الحقيقة" في فيلمه الذي نحن بصدده الآن والذي يختصر بالحروف S.O.P  او "Standard Operating Procedure  " وهو مصطلح يستخدم في تنفيذ العمليات النفسية والحربية وحتى الجنائية التي تخضع لقانون خاص وتفويض خاص ، يتعامل موريس مع الحقيقة على انها فكرة للبحث واعادة القراءة واعادة التحليل والنظر ، فهو غير معني باستخدام الوثيقة الفيلمية اداة لأختلاف سياسي او التشهير بجهة دون اخرى ، الفيلم بشكل عام وهو  يمتد زمنا الى قرابة الساعتين وطاف العديد من المهرجانات العالمية وعرض على نطاق واسع في الولايات المتحدة ومازال موضع درس ونقاش ، هذا الفيلم ينحو منحى مختلفا عما عرض من تفاصيل تلك الوقائع ، فأدانة الجريمة امر محسوم وعلى فرض ان الأدارة الأمريكية اتخذت اجراءاتها في محاكمة المتهمين بارتكاب تلك الفضائع الا ان  القصة تتعدى ذلك الى البحث الموازي واستجلاب الحقائق من زوايا ومنطلقات اخرى تحاكم الظاهرة .


هذه الخلفية والأطار العام للفيلم هو الذي يؤسس لوثيقة فيلمية مختلفة ليس مهما ان تعيد او تكرر المسلمات بقدر اهمية ان تخرج ب" رؤية ما" مختلفة تجعل الفيلم جديرا بالأهمية والمشاهدة .
وفي واقع الأمر ان المسألة لدى موريس تذهب بعيدا في انجاز المعالجة الفيلمية الى مستويات وتنويعات متعددة فمن جهة هنالك الخلفية الأعلامية الدعائية التي رافقت تلك الفضيحة التي تفجرت بانتشار اكثر من عشرة الاف صورة عن عمليات التعذيب والترويع والقتل في محيط سجن ابو غريب الواقع على بعد 30 كيلومترا غرب بغداد والذي كان بالأمس السجن المركزي للحكومة العراقية تحت نظام صدام حيث كان يعج بآلاف السجناء الجنائيين والسياسيين على السواء وكانت تتم فيه ايضا عمليات الأعدام .
والحاصل ان ظهور اسمه الى الواجهة كان صدمة بالنسبة للعراقيين بسبب الذكرى المريرة والمحزنة التي علقت في اذهانهم عن ذلك السجن الرهيب  لتأتي الولايات المتحدة فتنفق ملايين الدولارات من اجل تأهيله وممارسة الفعاليات التي كان يمارسها النظام الذي اتت لتخليص العراقيين منه بحسب ماتقول .
ولعل "العذاب والتعذيب " بمعطاه السيكولوجي لوحده ستكون له تلك المساحة الواسعة والأنعكاسات على طريقة  المعالجة الفيلمية للموضوع وطريقة تناوله بسبب ارتباطه عضويا بالوجود البشري وكونه علامة السقوط التي وصمت كثيرا من مراكز القوى والسلطة والحكومات والممالك والأمبراطوريات ففعل الأيذاء في منحاه السيكولوجي الفيزيائي هو مقترب بالغ الحساسية في المعالجة: من يعذب ولماذا وكيف وتحت اية ظروف ومن هم الضحايا ؟ هذه القصص في المعالجة الفيلمية هي التي تحقق التوازن في الرؤية وهو توازن لم يتحقق حتى الساعة في اي فيلم عن وقائع سجن ابو غريب بسبب غياب افادات الطرف الثاني وهم الضحايا وهو مايتداركه موريس في معالجته لأنه يستنطق القائمين على التعذيب ويمضي سنوات في تتبعهم ومحاولات اقناعهنم وقد اغراهم بالمال ودفع لهم  لكي ينقلوا حقيقة ماجرى على الأرض من  فضائع.
يركز موريس على مايمكن ان اسميه " سايكولوجيا الأذلال " ، الأذلال الممنهج ولكنه كما ظهر في الفيلم اذلال عبثي وافعال غرائبية سمجة تنضح بها افادات كثير من المتورطين فيها فهم تائهون في تلك الدوامة مابين واقع وجدوا انفسهم ازاءه واوامر صارمة بانتزاع الأعترافات وهو الذي يظهر من خلال كم المقابلات مع المجموعة التي ظهرت في واجهة الفضيحة وهم كل من : لندلي انغلاند – الوجه الأشهر في القصة مع صديقها وعشيقها غارنر الذي حملت منه وهي في داخل السجن ، جافال ديفيس ، جيرمي سيفيتيس، ميغان غارنر، سابرينا هيرمان ، جانيس كربنسكي.هذا يالأضافة الى تشارليس غارنر الذي منع من الظهور في اية مقابلة تلفزيونية وهو الذي كان يقود حفلات  التعذيب واشكال الأذلال وصولا الى التسبب في موت سجناء تحت التعذيب . يظهر الفيلم ان اول من فضح ماجرى في سجن ابو غريب هو الرقيب "سام بروفانس " من الأستخبارات العسكرية والذي عمل في السجن للمدة من سبتمبر ايلول 2003 وحتى شباط فبراير 2004 وهو الذي كسر حاجز الصمت وفضح ماجرى وتحدث بجرأة الى الصحافة وقد شكلت المعلومات التي ادلى بها والصور التي نشرها صدمة للجميع مما حدا بالسلطات الأمريكية الى ابعاده ومعاقبته .
لكن الملفت للنظر هي تلك القراءة المختلفة لبروفانس لهذا الفيلم اذ يقول في احدى المقابلات الصحافية:" لقد اصبت بخيبة امل من هذا الفيلم لأنه ببساطة لم يمض الى الغوص في قاع الحقيقة الآسن بل لامس الظاهر فقط وقصص الجنود والحراس وصغار الرتب من الذين سقطوا في الأخطاء المتتالية بسبب جهلهم والنقص في تدريبهم وضعف خبراتهم ".
هذه الأسئلة والجدل حول الفيلم وانتقادات بروفانس للفيلم لم تكن بعيدة عن ذهن المخرج الذي يقول ببساطة: " لقد قمت في هذا الفيلم بأكبر عملية تحري طوال حياتي واردت ان اصنع فيلم رعب ولكن فيلم رعب غير درامي".
ويضيف موريس :" انا حالي حال اولئك ذوي الرتب الصغيرة لكنني من موقعي كمخرج اريد ان اظهر الحقيقة المرعبة الكامنة خلف ظاهر الأشياء".
في كل الأحوال تبدو قصة العذابات في سجن ابو غريب لاتسعها مساحة فيلمية امدها ساعتان ولا كل القرائن اوالأدلة التي اراد بروفانس اظهارها لأنها متشعبة ومعقدة وكثيرة وتتشابك فيها الأسئلة حول المجريات والوقائع ومن الذي وقف وراءها وهي اسئلة اراد موريس ملامستها والأجابة عنها بهذه الدرجة او تلك .

مذكرات سابرينا : تنويع على القلق والرعب
من العناصر الفيلمية التي لفتت نظري هي عرض افادات  القائمة القصيرة من الضالعين في التعذيب لكن مذكرات المجندة الشابة في الشرطة العسكرية "سابرينا هيرمان " هي اكثر ما يلفت النظر في طريقة المعالجة فطريقة الكتابة (نوع الخط) الذي كتبت به سابرينا اشبه بخط تلاميذ المدارس وحتى الرسوم التي رافقت صفحات المذكرات التي تشبه رسوم الأطفال ، وحتى ملامح تلك المجندة التي تبدو في بعض احاديثها شبه مغفلة او مستغفلة وكأنها تروي عن لعبة ماشاركت هي فيها اذ تعجز عن الوصول الى اي انفعال يذكر على عكس آخرين ممن شاركوها تلك الحفلات السادية .
هذا مقطع  من مذكراتها التي ظهرت على الشاشة  :" للمرة الأولى يلفت نظري رجل عار تماما وملابسه الداخلية وضعت فوق رأسه وذراعاه اعيدتا الى الخلف وربطتا بالشباك وكان ذلك هو السبب الذي دعاني لألتقاط اول صورة فوتوغرافية ".
من على صفحات سابرينا ينقلنا المخرج الى معادلات صورية لعملية تفجير مروحية فوق السجن ، لوقائع وصول سابرينا  وانغماسها مباشرة من الآخرين في حفلات التعذيب والترويع ، لمشاهد دخول الكلاب البوليسية الى حفلات الرعب ونهشها اجساد السجناء ، لغرفة المقصلة والشنق ، كل ذلك ترويه سابرينا في صفحات مذكراتها التي تظهر بخط يدها وهي تكتب لنفسها ولزوجها واسرتها .


عاملوهم كما تعاملون الكلاب
لعل رمي الأتهامات يمينا وشمالا والنأي عن المسؤولية المباشرة هو مقترب آخر عمد  موريس الى تسليط الضوء عليه ولعل الرقيبة " جينس كربنسكي" كانت من اكثر الوجوه التي ارتبط ت بها فضائع سجن ابو غريب باعتبارها كانت المسؤولة الأدارية التنفيذية في السجن وتشعر في النهاية انها كانت تنفذ الأوامر فحسب ومن ينبغي ان يحاسب على تلك الفضائع هو من اصدر الأوامر فهي تروي مثلا وقائع زيارة وزير الدفاع السابق رامسفيلد الى السجن مباشرة بعد مقتل نجلي الرئيس العراقي السابق عدي وقصي والبرنامج الذي نظم له للتجوال في اقسام السجن وصولا الى غرفة تنفيذ احكام الأعدام لكنه يفاجئ الجميع بقطع جولته ومغادرة المكان سريعا مخلفا وراءه الجنرال ميللر الذي جاء بأمر من رامسفيلد مصحوبا بحشد من الخبراء في التعذيب وادارة السجون في افغانستان وغوانتانامو وقال بشكل واضح كما تروي كبرينسكي:
" يجب عليكم ان تعاملوا هؤلاء السجناء كما تعاملون الكلاب " حتى تحول السجن الى اكبر مركز للأستجواب والتحري في العراق .
ويروي مجند آخر قائلا :" لقد تم اعدادنا نفسيا على اننا امام اعداء شرسين يريدون قتلنا ويجب معاملتهم بكل الأساليب التي تتناسب مع اوضاعهم كمجرمين ..وكان من بين اولئك سجين جيء به وعومل بالطريقة القاسية نفسها دون ان نعرف تحديدا ماهي جريمته ثم ليتضح فيما بعد انه مجرد سجين عادي كان ثملا وتكلم بعبارات ما وجيء به الى السجن بالصدفة ولقي مالقيه زملاؤه من تعذيب اضافة الى اعتقال ابناء المطلوبين من الأطفال لأجبار آبائهم على تسليم انفسهم".
تتحول الصور الفوتوغرافية في هذا الفيلم الى فاعل مؤثر يحتل جل المساحة البصرية اذ يعوم الخطاب الفيلمي في بحيرة  من الصور وكأنه شعور من البلبلة والحيرة مفاده : من اين نبدأ ، من اي مفصل من مفاصل العملية الحربية – النفسية – البوليسية –السادية ، فكل منها يستحق وقفات مع غزارة المادة الفيلمية التي توصل اليها موريس والتي عمقتها المقابلات مع جميع المتورطين .
الصور الفوتوغرافية وجدها موريس مخرجا من التورط بعيدا في عملية انتاج خطاب سياسي يدين اشخاصا بعينهم ولهذا كان حذرا بما فيه الكفاية لكن المخرج و في احاديث صحفية عبر عن هدفه من الفيلم اذ كان قد قال مرار انه يسعى الى ان يتوصل الجميع الى الحقيقة وان يدان الجميع بصرف النظر عن رتبهم العالية وليس فقط التضحية بأصحاب الرتب العسكرية الدنيا .
الصورة الفوتوغرافية واين ومتى وكيف التقطت ومن التقطها ظلت لعبة من الفانطازيا الفيلمية التي لجأ اليها موريس وهو يقول:" انه نوع جديد من الأدوات الأتصاليه هو هذه الكاميرات الرقمية التي تلعب هذا الدور للمرة الأولى ، هذا لم يحصل من قبل ، والأمر ليس متعلقا بالفوتوغراف  بل بالحقيقة ، فالصور نعم هي  جلبت العار لأمريكا الا انها افضل من ان تجلب العار للحقيقة ، كل شيء مخفي وانت لاترى ولا تعلم شيئا لولا تلك الصور الفوتوغرافية".

في هذه الدائرة التي تتحول فيها الوثيقة الصورية الى اللاعب الرئيس يتوقف المخرج عند محطات اخرى موازية للصور الفوتوغرافية وهي صور الفيديو التي تجري معالجتها على انها احداث ترى وقائعها من ثقب الباب كتلك الروايات التي جاءت بها المجندة انجلاند التي لعبت دورا مهما في حفلات التعذيب وكانت تدفع السجناء للأستمناء وتكوين هرم وهم عراة وسحبهم على الأرض وتنفيذ عمليات الأيحاء بالغرق فيما كان عشيقها مولع بتوجيه اللكمات القاسية الى وجوه السجناء في اثناء تعريتهم والتبول عليهم .
العودة الى اشكال بدائية من الأذلال هي الخلاصة في صنع تلك الأيقونة البصرية المسماة "عذابات في سجن ابو غريب " فكرة الأذلال هي التي يؤكد عليها موريس مرارا عند تعليقه على فيلمه هذا وخاصة في حديثه  الى مجلة "دير شبيغل الألمانية " في ربيع العام 2008 وابان العرض الأول للفيلم في مهرجان برلين السينمائي اذ قال  : " اذا كانت الحرب على العراق هي حرب للأذلال وهو ماانا مقتنع به تماما ، انها حرب اذلال فعلا واننا كسبنا الحرب بأذلال العراقيين واستخدمنا الجنديات الأمريكيات للقيام بهذا العمل فأن الحقيقة هي ان ماتم القيام به هو اذلال للحكومة الأمريكية نفسها واذلال للشعب الأمريكي لأنهم مارسوا الأذلال على الرتب الصغيرة عندما عاقبوهم اوالقوا بهم في السجن".

الى الأعلى
تعليقات القراء: + - 
التعليقات لا تعبر إلا على رأي أصحابها.
  تعليقك على الموضوع:
الاسم:*
البريد الإلكتروني:
عنوان التعليق:*
محتوى التعليق:*
(*) هذه الحقول مطلوبة