نقد سينمائي

قصة قاعة سينمائية في كتاب

أحمد بوغابة

ستحتضن قاعة سينما الريف بطنجة (شمال المغرب) يوم السبت 14 أبريل الجاري، ابتداء من الساعة السابعة مساء وإلى حدود العاشرة ليلا، حفلا سينمائيا جماهيريا مفتوحا. والمناسبة هو احتفاء بمرور خمس سنوات على تأسيس الخزانة السينمائية في مدينة طنجة كأول قاعة للفن والتجريب في شمال إفريقيا التي توجد في فضاء القاعة المذكورة نفسها.

وسيتميز هذا الحفل السينمائي الاستثنائي بفقرة جد هامة والمتمثلة في تقديم الكتاب الذي يَقُصُّ تاريخ وحيثيات الخزانة السينمائية في علاقتها بتاريخ السينما في طنجة والسينمائيين المنتمين إلى المدينة، مغاربة كانوا أم أجانب. وقد صدر الكتاب بهذه المناسبة الجميلة تحت عنوان "ألبوم الخزانة السينمائية بطنجة".

لقد اجتمعت أطراف عدة حول المشروع حتى يرى النور، وهو ما تحقق فعلا بعد سنة من الاشتغال عليه. ساهمت فيه أسماء من المدينة ومن المغرب وخارجهما، مساهمة أدبية وفنية ومادية ومعنوية نظرا لاستثناء التجربة في المغرب، وخاصة أن مدينة طنجة كانت دائما باب للحضارة، وما استقبالها للسينما في بداياتها الأولى إلا تأكيد على ذلك، وتترجمه بتفاعلها مع كل جديد جيد ومثمر.     

كتاب متعدد الألسنة كالمدينة نفسها

وقبل حفل يوم السبت 14 أبريل الجاري، كان قد اجتمع مؤخرا في حديقة ماجوريل الرائعة بمراكش (جنوب المغرب) عدد كبير من أهل الثقافة والفنون والإعلام المحترفين، سواء من المنتجين لها أو لمروجيها ووسطائها، من جنسيات مختلفة، مقيمة بالمغرب، للاحتفاء بنفس الكتاب أيضا حيث امتد اللقاء لأكثر من 3 ساعات بكتاب جاء من شمال المغرب ليحتفل به جنوبه. وربما سيجول "الكتاب" مستقبلا في عدد من المدن المغربية، وخارج الحدود أيضا، للاحتفاء به من طرف كل عاشق للسينما وللثقافة السينمائية.

يقع الكتاب في 340 صفحة من الحجم الكبير وبخمس لغات (العربية والفرنسية والإنجليزية والإسبانية والكتلانية) حيث جميع النصوص الواردة في الكتاب تُرجمت إلى بعضها باللغات المذكورة وهي – أي النصوص – خلفية لصور ووثائق منها القديمة جدا وأخرى حديثة جدا لذا يحمل الكتاب عنوان "ألبوم الخزانة السينمائية بطنجة". إنه كتاب فني بالدرجة الأولى دون أن يعني بأن نصوصه للاستئناس فقط بل مراجع لفهم تاريخ السينما بطنجة وهو يحمل أيضا بُعدا تاريخيا بمحتوياته. وعليه، فهو كتاب فني تاريخي. إنه كتاب غير تقليدي إطلاقا.

كتاب جعل من الخزانة السينمائية بطنجة فضاء لولوج تاريخ السينما لتلك المدينة بعد أن تحولت الخزانة، في ظرف وجيز لا يتعدى خمس سنوات، لذاكرة المدينة السينمائية خاصة وأنها – أي الخزانة – توجد وسط المدينة على ساحة تاريخية تُعتبر القلب ورئة المدينة حيث تفصل بين المدينتين: العتيقة والعصرية.

أشرف على إعداد الكتاب كل من السيدة يطو برادة مُؤَسِّسَة الخزانة وهي قبل كل شيء فنانة فوتوغرافية ذات شهرة عالمية حيث توجد أعمالها معروضة في مختلف الأروقة الكبرى والشهيرة في العالم. وقد وظفت مكانتها العالمية لإنقاذ القاعة السينمائية. ويا ليت كل إسم مغربي شهير فعل مثلها !!!. وأيضا معها الناقد والكاتب عمر برادة الذي لعب دورا جوهريا في التنسيق بين الكُتَّاب الذين ساهموا في صياغة جزء من التاريخ السينمائي للمدينة، وهم فيليب أزوري وإدغاردو كوسارينسكي وكارلس غيرا ولوك سانت وبشرى خليلي وأحمد بوغابة.
ففضلا عن الصور والأرشيف يتضمن الكتاب نصوصا ولقاءات وفيلموغرافية طويلة وبطائق تقنية ونبذة عن أهم الأسماء السينمائية بالمدينة.

يتنقل الكتاب بنصوصه وصوره ورسوماته ووثائقه بين الماضي والحاضر لمدينة عرفت بدورها انتقالات متعددة بين الحكم الإسباني ثم الدولي فعودتها إلى المغرب وهذا خلال القرن العشرين. ولم نعد إلى الماضي البعيد الذي عرفت فيه طنجة أنظمة كثيرة حكمتها آتية من شرق المتوسط كالفينيقيين على سبيل المثال لا الحصر.

طنجة كانت ومازالت معبرا بين القارتين... وبين بحر أبيض هادئ... ومحيط هادر... وكانت أيضا نقطة إلتقاء وفي ذات الحين للفراق. حكمت عليها الجغرافية أن يكون تاريخها استثنائيا وهو ما تعيشه حاليا الخزانة السينمائية بطنجة التي أعادت الحيوية للثقافة الفنية والسينمائية بالمدينة، خاصة وأن المهرجان الوطني للفيلم المغربي قد استقر بدوره في نفس المدينة وكذا مهرجان الفيلم القصير المتوسطي. كما تنظم الخزانة مهرجانا شبابيا سنويا تحت إسم "سينما الناشئة" الذي بدأ يستقطب الهواة من مختلف الأقطار الإفريقية أيضا.

لقد دخلت السينما إلى المغرب من باب طنجة. وتُعد المدينة المغربية التي حملت كثير من الأفلام إسمها في عناوينها (أكثر من 39 فيلما من بين أكثر من 300 فيلم صُوِّر بالمدينة) وهو ما لم تحظ به على الإطلاق مدينة مغربية أخرى.

كتاب غير كلاسيكي

يضعك الكتاب منذ صفحته الأولى بعد الغلاف في الأجواء السينمائية بأسلوب فني يمتاز بالذكاء والإبداع في آن واحد، بحيث تضمن خريطة مدينة طنجة ثم قامت مخرجة الكتاب نادية زيميرمان  Nadja Zimmermanبوضع علامات على الأمكنة التي كانت تقع فيها القاعات السينمائية وتوزيعها. تبين أنها جلها كانت متمركزة في وسط الخريطة، موزعة بين المدينتين العتيقة والعصرية، وهو ما يعكس الحالة الاجتماعية لساكنة المدينة قبل 40 سنة. علما أن التحولات الاجتماعية للمدينة بدأت من داخل السور العتيق، وهذه نقطة أخرى ليس مجالها في هذا النص. وكانت بالمدينة 20 قاعة سينمائية إبان تاريخها الزاهر ولم يبق منها سوى 4 أهمها قاعة سينما الريف التي هي في ذات الوقت الخزانة السينمائية وملتقى الفنون.

بعد هذه الخريطة ذات البعدين الطوبوغرافي والسينمائي، يشرع الكِتاب في فتح خزانته التاريخية عبر الصور باعتبار "صورة واحدة تعادل ألف كلمة" كما قال الحكيم الصيني كونفوشيوس منذ قرون طويلة. فتلك الصور تعبر في ذاتها عن تاريخ المدينة. ثم ندخل بالصور – دائما - إلى ساحة 9 أبريل 1947 (وهذا التاريخ هو الذكرى التي خاطب فيه الملك الراحل محمد الخامس في المغاربة مطالبا باستقلال المغرب علما أن مدينة طنجة كانت حينها تحت الإدارة الدولية). وهذه الساحة معروفة عند عامة ساكنة المدينة ب"سوق البرا" (بمعنى السوق الخارجي) لأنه قديما كان موجودا خارج أسوار المدينة العتيقة/الأصلية. وتلك الساحة كانت أمام الأبواب الرئيسية للمدينة حيث يأتي الفلاحون والبدويون لبيع منتجاتهم الفلاحية وبهائمهم لقاطني داخل المدينة وهذا قبل بداية القرن العشرين. وداخل المدينة العتيقة يوجد "السوق الداخل" يعني "السوق الداخلي" وقد حُظي بكثير من النصوص والروايات والقصص من لدن كتاب أجانب وأيضا كتب عنه الكاتب المغربي الراحل محمد شكري لأن هذا الفضاء كان أساسيا في المدينة إلى حدود منتصف القرن العشرين.

وهذه الساحة – ساحة سوق البرا عند العامة وساحة 9 أبريل رسميا - هي التي تطل عليها حاليا الخزانة السينمائية التي توجد بقاعة سينما الريف. لقد تم الاحتفاظ باسم القاعة عمدا لأنه مشهور عند ساكنة المدينة بينما المثقفين بدؤوا يتداولون إسم الخزانة خاصة باللغة الفرنسية "cinémathèque ".
ومن هذا المكان تبدأ لعبة الصورة والكلمة والتداخل في ما بينهما دون أن يشرحا بعضهما أو إعادة لبعضهما بقدر ما يتكاملان.

فكرة... مشروع... إنجاز.. إقبال...
 
شرحت الفنانتان، يطو برادة (من طنجة) وبشرى خليلي (من الدار البيضاء) تجربتهما مع الخزانة السينمائية منذ كانت مشروعا ومجرد حلم في عقل كل واحدة منهن، ثم تحول في البداية إلى مشروع مكتوب على الورق ليترجمنه على الواقع في قاعة الريف نفسها رغم الصعوبات المالية المستمرة إلى حد الآن. حكايتهما مع الخزانة رائعة جدا وتستحق الاعتراف والتقدير. وستلتحق بمسارهما هذا في ما بعد سيدة أخرى قادمة من فرنسا وهي سينمائية متخصصة في البرمجة السيدة لِيَا موران Léa Morin خريجة مدرسة "فيميس" (FEMIS) لتعطي للخزانة محتوى لذلك الفضاء السينمائي حيث تفوقت كثيرا في البرمجة، نظرة خاطفة في الموقع الإلكتروني للخزانة يعطي للزائر نظرة عامة على ما تنتجه من ثقافة سينمائية راقية.
أعتبر شخصيا الخزانة السينمائية بطنجة بمثابة مدرسة سينمائية لمن أراد تعلمها من أبناء المدينة ونواحيها والمدن القريبة منها. سواء بمشاهدة الأفلام النادرة أو الكلاسيكية أو المشاركة في الندوات واللقاءات مع سينمائيين من أنحاء العالم. كما يُعد النادي السينمائي "المصباح السحري" المخصص للأطفال حالة استثنائية في المغرب، إذ أنه النادي الوحيد المُوجه للأطفال بتربية وبيداغوجة ذكية تجمع بين متعة السينما وفهمها واستيعاب مكوناتها التقنية والفنية من خلال عرض مسرحي قصير قبل انطلاق العرض السينمائي. يتم التركيز، في هذا النادي، عند  كل حصة، على تقنية سينمائية ما أو ظاهرة تاريخية في الفن السابع وغيرها من مكونات فنون السينما في قالب يستجيب معه/وله الأطفال بعفوية من خلال مشاركتهم، فلا يحسون بأنهم في درس إجباري بالقسم وإنما حفلة فنية يتعلمون باللعب والعيون والأضواء والأصوات. فضلا عن لقاءات أخرى كثيرة تهم الأطفال في أيام العطل. 

وتتميز الخزانة السينمائية بطنجة أنها الوحيدة أيضا التي تعرض الأفلام الوثائقية أسبوعيا وتعتبرها جزء أساسي من السينما قبل أن يصبح الجميع في هذه السنة يهتم بالفيلم الوثائقي كموضة دون الوعي الحقيقي بمكوناته.

إن الخزانة السينمائية بطنجة ليس فضاء ثقافيا وفنيا عاديا بقدر ما تحول في المدينة إلى فضاء سياحي أيضا حيث الأجانب يبرمجون زيارتهم لها نظرا لإشعاعها في أكثر من بقعة في العالم من خلال البرامج المشتركة مع المؤسسات السينمائية والثقافية في مختلف أقطار العالم. تعمل الخزانة السينمائية أيضا على استقدام كثير من الأنشطة الدولية في مجال السينما إليها وبالتالي إلى الجمهور المحلي والمغربي الذي هو المستفيد في نهاية المطاف.
كل ما سلف ذكره يتطرق له الكتاب بالتفصيل وبغنى المعلومات السينمائية التاريخية التي يتضمنها بين دفتيه. كتاب ينطق بالصورة والكلمة لكي تتحدث معه عين القارئ بمُتعة بصرية يستحضر المتخيل من الأساطير التي أنشأت حول مدينة طنجة. 

قد ينال إعجابكم