" إلى أين نرتحل ...غالبا إلى وطننا "
صفاء الليثى
اتخذ المخرج التركى نجاتى سونميز اسم الفيلم الأشهر للمخرج اليونانى الكبير ثيو أنجلوبولوس " تحديقة أوليس " اسما لفيلمه التسجيلى عن ثيو والذى يعد بمثابة رحلة فى عالم سينما المخرج ولمدة ساعة عبر 11 لوحة يمضى الفيلم فى بناء تقليدى بالانتقال المتوازى بين مقاطع لمقابلة مع ثيو ومقابلات مع من عملوا معه وأجزاء من الأفلام التى تؤكد مايذهب إليه المتحدثون. الفيلم تقليدى فى أسلوبه الوثائقى رغم الاسم اللامع للفيلم "تحديقة ثيو" الذى قد يوحى بتناول إبداعى غير تقليدى للفنان صاحب الأسلوب الخاص المنفرد فى الثقافة اليونانية. مقارنة مع ما يصلنا من أجواء صاخبة لهذه الثقافة والذى ظهر عرضا فى الفيلم التسجيلى حيث مقابلة مع فنان شعبى معجب بثيو بعد ما نسمعه من عزف على الأكورديون بموسيقى يونانية شائعة ومرحة مختلفة تماما عن التيمات الموسيقية لأعمال المخرج ثيو أنجلوبولس والمعبرة عن عالم سينماه الفريد. وهو مخرج مفكر يفلسف عمله وينجح فى شرح أسلوبه بنفسه، ولا غرابة فقد بدأ حياته ناقدا ، فى الفيلم نسمعه يتحدث كيف أن الناس عادة ما ينسون دروس التاريخ ومن ثم يكررون أخطاءهم. وهو يستخدم عناصر الماضى لفهم الحاضر.
يبحر ثيو أنجلوبولس بين الزمان معيدا بناء الأماكن عابرا شوارع التاريخ فى كل أفلامه بداية من عمله الأول " الفرقة الرحالة" متتبعا رحلة فرقة تمثيل متنقلة رغبة فى الإسقاط على الحاضر وقد نجح بسيناريو مبدع أن يصور الفيلم أثناء الحكم الدكتاتورى لليونان لكى يمر من الرقابة، نعرف هذا من الممثل المسن الذى قام بدور المعلم فى أول أفلامه وعاد لنفس الدور مع "المرج الباكى" وهو الفيلم الأول من ثلاثيته عن اليونان المعاصرة. قام المخرج التركى بتصوير فيلمه التسجيلى الذى نحن بصدده أثناء تصوير فيلم المرج الباكى عام 2003 الذى يحكى عن مهاجرين أتراك قدموا من جمهوريات الاتحاد السوفيتى السابق هربا من الحرب ويصلون إلى الجزيرة اليونانية التى أعاد ثيو بناء قرية كاملة بمدرسة وكنيسة ومنازل قريبا من بحيرة على الحدود مع بلغاريا، وهى البحيرة التى تجف فى نهاية أغسطس قام ثيو مع فريق عمله فى ببناء قرية كاملة فى سبتمبر محاكيا طرز البيوت بدقة ثم تركها حتى أتى الفيضان طبيعيا فغرقت القرية ليلا، وفى الفيلم صورهم عندما يستيقظون ويجدون منازلهم غارقة فيرحلون مرة أخرى ليظلوا على ترحال مدفوعين مرة بالحرب ومرة بكارثة طبيعية.
المخرج ثيو أنجلوبولوس
الواقعة التاريخية الحقيقية ضفرت فى السيناريو مع قصة المرأة التى تمثل مراحل حياتها ما يحدث فى المنطقة تلك القصة التى بدأت بهروبها يوم عرسها من العم الذى زوجوه لها، وتنجح فى اللقاء بالحبيب وتكوين أسرة معه وعندما تعود للقرية يتركونهم مع الفيضان دون مساعدة. مأساة تراجيدية معاصرة مبنية على حكايات حقيقية حيث لا مهرب أمام الإنسان المعاصر سوى حلم السفر والترحال الدائم. المخرج نجاتى كتب فى إحدى لوحاته الإحدى عشر( إلى أين نرتحل.. غالبا إلى وطننا) وركز فى فيلمه على مشاهد المرتحلين على اختلاف أشكالهم مع حمار يحمل متاعا، أو بحقائب ومظلات يحملها السائرون ، أو عبر قطار ، مشاهد متكررة فى أفلام ثيو يصفها بنفسه لنا شارحا أنه بمثابة من يجلس على مقعد بجوار السائق مراقبا الطريق أثناء الرحلة، هكذا هو فى كل أفلامه يأخذ مقعد المتأمل للطريق والبشر عن بعد. ومع ذلك لاتبدو أفلامه مثل أفلام الطرق، بل يبدو أبطاله غارقين فى الزمن مثل دراما إغريقية. ولن يكون غريبا أن المشهد الأول لفيلمه الأول لمسافر قادم مع حقيبة سفر يمثل عودة أوديسيوس إلى أثينا. ويعلق ثيو أقول إن الرحلة هى بيتى ووطنى ،أثناء الرحلة يكون الإنسان فى حالة تناغم مع نفسه، يكون فى حالة بحث عن توازنه الداخلى. بيتى هو وطنى أحمله معى أثناء الرحلة، أنا الشخص الجالس بجوار سائق عربة تسير على غير هدى، النوافذ مفتوحة والمشاهد تتراءى عن بعد ، عنده تكون هذه هى نقطة توازنى، ففى الرحلة أحلم وأبدع ، الرحلة تعنى لى الحلم ورواية القصص. الرحلة فى الطريق هى القصة، قصة فى الأبدية.
يمكن اعتبار مجموع أفلامه عملا واحدا متصلا يُبحر فى الزمن ويقدم بانوراما وسعة ضبابية الإضاءة لبشر يعانون ولا يتعلمون من أخطائهم. نادرا ما يقطع ثيو مشاهده، بل يصور لقطة واحدة طويلة جدا قدر ما تستطيع تقنيات السينما تحقيقها. لقطة واحدة طويلة يظهر فيها الأشخاص والأشياء عن بعد، هاهم يسيرون على شاطئ البحر حاملين حقائبهم ويظهر خط الأفق، تأتيهم صيحة التوقف كأوامر المخرج ستوب، يتوقفون ويستديرون قليلا للكاميرا، للمبدع وإلينا نحن المتلقين المبحرين معهم، يقطع المخرج إيهامنا لينبهنا حتى لانستغرق ونحزن لأقدارهم. يستوقفنا لنتأمل رحلتهم وقد ندرك أنها رحلتنا نحن أيضا.
لقطة من احد افلامه
أغلب الظن أن المخرج التركى بدأ فكرة فيلمه بتتبع مجموعة الكومبارس وهم يتحدثون اليوناية والتركية ، وأكمل اللقاءات مع من عملوا مع ثيو أنجلوبولس ليصبح فيلمه بحثا فى الأسلوب المميز للفنان اليونانى ، قسم المخرج الفيلم إلى 11 لوحة ولكل لوحة عنوانا، حاول أن يسبر أغوار العالم الفنى للمخرج اليونانى الكبير، ورغم تقليديته إلا أنه نجح فى تقريب أسلوب عمل المخرج لأذهان المتلقى وخاصة عندما شرح كيف بنى قرية كاملة ليصور فيلمه" المرج الباكى" .
أهم من التقاءهم هو صانع ديكوراته نيكوس الذى عمل معه 32 سنة ليملأ مشاهده بأجولة الحبوب، وعربة قطار قديمة، وعربة يد مركونة أمام منزل... تفاصيل دقيقة تعنى الإبداع الذى ذكره عرضا ثيو ويضعنا أمام حقيقة فن السينما الذى هو إعادة بناء خلاقة للواقع. يساعده وينفذ أفكاره فنانون مؤمنون بعبقريته ، سيمضى فيلم تحديقة ثيو التسجيلى فى ساعة مكثفة فى تعريفنا بهم جميعا، كتاب السيناريو اللذين شاركوه فى كتابة أفلامه، مصور كل أفلامه، مونتير كل أفلامه، يرتحل إليهم إلى تركيا وفرنسا واليونان ليكمل صورة الفنان ويعرفنا عن أسلوبه. ركز التركى نجاتى سونميز على تحليل أسلوب العمل ولم يقترب من حياته الخاصة، فقط وصفه إنسانيا بالرجل الطيب وخاصة من قبل الكومبارس الأتراك. ساعة مكثفة نجحت فى إعطاء نظرة عامة على أعمال المخرج اليونانى العالمى الذى رحل بطريقة مأساوية إثر حادث سيارة فى يناير 2012. وتبقى أعماله ثيودور أنجلوبوليس المولود فى 27 أبريل 1935 والمتوفى فى 24 يناير 2012 مخرجا ومؤلفا ومنتجا ظل رئيس شرف مهرجان سالونيكى الدولى لعدة سنوات. أشهر أفلامه تحديقة أوليس 1995 ،الأبدية ويوم 1998،كما اشتهر بإنجاز ثلاثيات فيلمية آخرها ثلاثية عن اليونان المعاصرة أولها فيلم " المرج الباكى" 2004، ثم تراب الزمن 2009 ، والجزء الأخير البحر الآخر 2012 لم يعرض فى حياته وأتصور أن يعمل تلاميذه ومن عملوا معه على عرضه وتكريمه.