آخر الأخبار :

السودان بين مطرقة الحرب وسندان السلام المنقوص

تعليق علي الموضوع إرسال لصديق طباعة الصفحة

القاهرة -أ ش أ

تبدو الأمور بين دولتي السودان وجنوب السودان في ظل غياب رؤية واستراتيجية واضحة للتعامل مع ما يفترض أنها أهم دولة مجاورة أشبه بما يمكن أن نطلق عليه "عبثية التفاوض والحرب" , فمشكلة السودان ليست حديثة عهد, ولا هى وليدة انفصال جنوبه ليصبح دولة , بقدر ما هى تقاطع عناصر التاريخ والجغرافيا في منطقة هى الأشد حساسية في تركيبتها الإثنية وتداعياتها الجيوبولتيكية.

ومع تصاعد وتيرة الصراع بين الدولة الأم (السودان) والدولة الوليدة (جنوب السودان) تبدو إشكالية هى الأغرب في تاريخ الصراعات الأفريقية وهى سرعة انجرار أطرافها في لعبة أكبر من أن يديروها أو يكونوا مؤثرين حقيقيين فيها نظرا للتضاغط الحاصل بسبب تعدد الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة في هذا الصراع.

ولعل المراقب لما يجري بالسودان حتى قبل انفصال جنوبه عن شماله يجد أن ثمة لائحة طويلة من أسباب النزاع القائم التي يبدو أنها مرشحة للتفاقم أكثر فأكثر في المستقبل القريب, لكن الأمر لن يقتصر على ذلك بفعل التداعيات المحتملة في المنطقة التي تعج أيضا بخلفيات كثيرة, من بينها التداخل الإثني والقبلي والمذهبي في دول المنطقة, التي تعاني جميعها من غليان التغييرات الحاصلة عربيا.

فاتفاق نيفاشا للسلام الموقع عام 2005 بين الشمال والجنوب فتح المجال كما كان يتصور البعض على مشروع سلام أهلي داخلي, من خلال الاتفاق على استفتاء بشأن الجنوب بعد 22 عاما من النزاعات والحروب ارتكب فيها ما ارتكب من فظائع.

وأتى الاستفتاء الذي جرى بموجبه انفصال الجنوب في يوليو 2011 كدولة غير مكتملة تحمل بذور الصراع مع الشمال, وببعد تاريخي يعود إلى عام 1956 وهو تاريخ ترسيم الحدود السياسية والإدارية الداخلية والخارجية الذي يستند الصراع الحالي إليه , حيث كان السودان في عهد الاستعمار البريطاني مقسما إداريا إلى منطقتين شمالية وجنوبية مختلفتين.

إلا أن العديد من الخرائط التي تركتها بريطانيا ذخيرة للنزاع الداخلي, لم تكن واضحة ولم يتم الاتفاق على تعديلها أو إعادة النظر بها لاحقا, ولذلك ثار النزاع مجددا بين الخرطوم وجوبا على مساحات ممتدة على 1800 كلم من الحدود المشتركة, التي تضم أراضي زراعية خصبة وموارد طبيعية نفطية وغيرها.

ومن بين تلك المناطق أيضا, منطقتا آبيي وهجليج اللتان تشكلان بعدا عاطفيا في الذاكرة الجماعية للشمال والجنوب, حيث ينتمي قادة كل من المنطقتين إلى قبائل تعود أصولها وجذورها التاريخية والجغرافية إليهما.

وقد تأسس الصراع بين شطري السودان بسبب سياسة الاحتلال الإنجليزي , فأثناء الحكم الثنائي (المصري الإنجليزي) للسودان في الفترة ما بين 1899 وحتى 1956 كانت السيطرة للانجليز وتمكن الانجليز من الفصل بين الشمال والجنوب عندما أصدروا قانون المناطق المغلقة عام 1922 حيث وضعوا قيودا على انتقال الأفراد بين الشمال والجنوب غلا بأمر الحاكم العام للسودان وهو إنجليزي وكان المقصود من ذلك عدم اختلاط العناصر العربية والمسلمين مع سكان الجنوب.

وتم تقسيم الجنوب من ناحية آخرى وذلك عندما كان يتم إرسال البعثات التبشيرية التابعة للكنائس القادمة من أمريكا وفرنسا وإنجلترا وألمانيا وإيطاليا , فكل كنيسة تستقطب بعضا من الجنوبيين لمذهبها وللتحدث بلغتها وكانوا يرسخون الاختلاف في الدين واللغة بينهم وبين الشمال.

فيما دفعت إشكالية الحدود العائمة التي كرسها الإحتلال البريطاني بالسودان إلى أن يعيش صراعا حادا مع جنوبه ارتفعت وتيرته بعد استقلال جنوب السودان في يوليو الماضي خاصة بعد بروز مشكلات الثروة النفطية عند التطبيق العملي لمسارات الحدود غير المستقرة بين الدولتين.

فقد سبق وأغلق جنوب السودان أنابيب النفط المارة بالسودان لمطالبته برسوم , وذلك بسبب اعتماد الجنوب على منشآت الشمال في تصدير نفطه على الرغم من أن جنوب السودان يحظى بثلاثة أرباع إحتياطي النفط , فيما تتفاعل مشكلة هيجليج التي يطالب بها الجانبان باعتبارها تؤمن نصف إنتاج السودان النفطي.

وتعتبر منطقة هجليج التي شكلت شرارة النزاع القائم والتي احتلتها قوات جنوبية قبل أن يتم إجبارها على الإنسحاب قبل يومين , إحدى رئتي الخرطوم المالية, وتعد من المناطق الاستراتيجية التي تستند الخرطوم إليها بعدما فقدت في يوليو 2011 ثلاثة أرباع احتياطها من النفط الذي كانت تملكه قبل انفصال الجنوب.

وتشير الخرائط إلى أن منطقة ابيي تابعة للشمال وهى مناطق داخلة في شكل نتوءات في أراضي الجنوب مما جعل الجنوب يصر عليها بعد اكتشاف البترول حيث يشكل البترول 97% من دخل الجنوب ويشكل 50% من دخل الشمال ويريد الجنوب الاستحواذ على كل هذه المناطق.

وكانت منطقة هجليج تتبع منطقة "آبيي" التي تتمتع بوضع خاص وفقا لاتفاق السلام عام 2005 , لكن محكمة التحكيم الدولي في لاهاي حدت من مساحتها في 2009 وفصلت عنها هجليج , ورغم ذلك لم يتم حسم الأمر , حيث تؤكد جوبا أن المنطقة وحقولها النفطية كانت في الجنوب حسب خرائط 1956 , كما لم تحسم المحكمة مسألة ضم آبيي إلى شمال أو جنوب السودان.

كما كان من المفترض أن يتم استفتاء في يناير 2011 حول المنطقة, لكن الخلاف على من يحق له الاقتراع أجهض العملية برمتها, وفي مايو 2011 استولت قوات الخرطوم على المنطقة, وباتت سببا رئيسيا من أسباب النزاع القائم حاليا , فيما وضعت جوبا الانسحاب من منطقة هجليج التي احتلتها مؤخرا شرطا لانسحاب الخرطوم من آبيي قبل أن تنسحب منها بضغط من قوات الخرطوم.

وتتباين التقديرات حول إمكانية إيجاد حلول ناجعة للمشكلات العالقة بين السودانين , بعد أن أججها الصراع الأخير حول منطقة هيجليج الغنية بالنفط , حيث يفرض موروث صعب من التداخلات الإثنية والثقافية والاجتماعية وانعاكساتها وضعا شديد التعقيد لا يعطي دلائل مطمئنة على قرب التوصل إلى توافق شامل بين شمال السودان وجنوبه.

فالاتفاقية التي أنهت حربا أهلية ضارية بين شمال السودان وجنوبه عام 2005 لم تستطع أن تنهي كل الخلافات القائمة في مجال ترسيم الحدود بين الجانبين, بل وخلقت نقاط توتر ساخنة هددت التعايش الاجتماعي القائم في مناطق التماس والذي نجحت الجماعات العرقية والقبائل في المنطقة في خلقه على مدى تاريخ طويل من العيش المشترك.

وقد أثارت التقسيمات السياسية الجديدة مشكلات ملكية الأرض واستخدامها وحقوق الرعي وتوزيع الجماعات العرقية على خط الحدود, ويعد الصراع الحاصل على منطقة ابيي الغنية بالنفط المثال الأبرز في ذلك, وإن تمت صياغته في ضوء التوزيعات العرقية بين قبائل المسيرية التابعة للشمال والدينكا نقوك الجنوبية.

كما يمثل الخلاف على الحدود بين قبائل الدينكا ملوال في شمال بحر الغزال والرزيقات في جنوب دارفور مثالا آخر, يعززه أيضا مطالبة الجنوب باستعادة منطقة "كفيا كنجي وحفرة النحاس" من ولاية جنوب دارفور.

وإذا كانت تلك الأمثلة تتعلق بنزاعات حدودية واضحة في تفسير حدود جنوب السودان التي تم اعتماد ترسيم الحدود إبان استقلال السودان في يناير 1956 أساسا لها, فإن قضايا جبال النوبة في ولاية جنوب كردفان الحالية وجبال "الانقسنا" جنوب ولاية النيل الأزرق وهما ولايتان شماليتان على وفق التقسيم الجديد, تطرح نقاط توتر آخرى وإن بدت خارج التداخل الحدودي المباشر وفق حدود 56 إلا أنها حملت موروث تدخلات عرقية وسياسية منذ مرحلة الحرب الأهلية.

وكانت الحكومة السودانية قد حاولت في مفاوضاتها مع الحركة الشعبية اعتماد الترسيم المعروف للحدود بين الشمال والجنوب في لحظة الاستقلال عام 1956, وحاولت تأجيل النظر في قضايا ابيي وجبال الانقسنا وجبال النوبة, وفصل مسار التفاوض عليهما الذي ظلت الحركة الشعبية تعتبره مطلبا جوهريا لديها لاسيما أن الكثير من قادتها وعناصرها قد انحدروا من هذه المناطق.

وفي الوقت الذي تم فيه التوصل إلى تفاهمات عامة بشأن مناطق جبال النوبة والانقسنا إلا أن التماس الحدودي في ابيي ومشكلة تقسيم الثروة فيها جعلت منها الأزمة الأكبر بين الجانبين.

ورغم التعايش السلمي الذي كان يمكن أن يصبح نموذجا بين القبائل التي تعيش في مناطق التماس , إلا أن الاستقطاب السياسي بين الجنوب والشمال وسياسات الاستثمار والسيطرة على الثروات في المنطقة أدى إلى تضرر هذا النموذج وصولا إلى درجة الإنهيار.

ولم تحسم اتفاقية نيفاشا أمر هذه المنطقة المتنازع عليها فظلت محل شد وجذب ونقطة خلاف وتوتر دائمة في المفاوضات اللاحقة بين الحركة الشعبية التي تطالب بضمها إلى ولاية بحر الغزال والمؤتمر الوطني الذي يرى أنها تابعة لولاية جنوب كردفان الشمالية, كما جرت عدة محاولات للوصول إلى تفاهمات بشأن ترسيم حدودها وحسم أمرها إلا أنها باءت بالفشل.

ورغم انتهاء أزمة هجليج بشكل مؤقت مع إعلان كل من الطرفين انتصاره فيها إلا أن المواجهة العسكرية التي قاربت الذروة هذه المرة بين الشمال والجنوب أكدت أن الحل العسكري للمشكلات القائمة بينهما لن يكون ناجعا , نظرا لما ينطوي عليه من تكلفة عالية لا تتحملها موارد الدولتين المحدودة.

كما أن ثمة تداعيات آخرى للأحداث على صعيد الشمال الذي يواجه مشكلات خطيرة في دارفور وكردفان, ولو نجح الجنوب في فرض إرادته بالوسائل العسكرية, أو على الأقل منع الشمال من تحقيق أهدافه بهذه الوسائل, فسيمثل ذلك تشجيعا يعتد به لحركات التمرد في الشمال لاشك أنه سيفضي إلى تهديد لسلامته الإقليمية.

كما أن تصاعد فرص الصراع بين دولتي السودان يهدد مصالحهما المشتركة , بالإضافة إلى أنه يهدد بشكل مباشر حياة الملايين من البشر في الدولتين , كما أنه يعيد إنتاج التوتر الذي يطيح بآمال الجنوبيين تحديدا في بناء دولتهم الوليدة.

ويرى مراقبون أن وقوع الدولتين بين سندان الحرب ومطرقة السلام المنقوص الذي لا يكرس حلا ناجعا لإنهاء الأزمات , يفرض على القيادتين الشمالية والجنوبية التحلي بالرشد السياسي لصياغة أطر جديدة في العلاقات بدلا من أن تتعرض البلدان إلى خسائر إستراتيجية , ربما تصل إلى مستوى الإنهيار على المدى البعيد وربما المتوسط.

وبعيدا عن سيناريوهات الحرب التي تبقى حاضرة بقوة بين الشمال والجنوب , فإن رسم سياقات غير تقليدية وتدشين صيغ جديدة تسهم في حل المشكلات العالقة بين البلدين وأهمها الحدود والإستفادة من الثروات الطبيعية , هو السبيل الوحيد لإغلاق ملف الخلافات ومنع الإنزلاق إلى توترات جديدة يمكن أن تكون شرارة انطلاق حرب شاملة بين الدولة الأم وجارتها الوليدة.

22/04/2012

تعليق علي الموضوع إرسال لصديق طباعة الصفحة

 

شروط النشر