متابعات

لما حكت صهباء "حاملة الجمرة"

غزة - تامر فتحي
تبدو بهيئتها وفكرها وحياتها العريضة وبيتها المنسق وكأنها نغمة منفردة لا مثيل لها في غزة، قال لها محمود درويش "أنتِ كالديناصورات، فمثلكِ إنقرض من زمن"، وقالت عنها رفيقاتها في سجن القناطر "أنها النسمة التي هونت عليهن قسوة السجن"، وقال لها زوجها الشاعر معين بسيسو في إحدى قصائده " أعطيكِ كنز المارد المخبوء في السّحب وكلّ ما أعطاني العدو والصديق " وقالت هي عن نفسها في الفيلم الوثائقي الذي كتبته وأخرجته نجاح عوض الله وانتجه تليفزيون فلسطين" أنا حاملة الجمرة". إنها صهباء البربري أول مناضلة شيوعية وسجينة سياسية في تاريخ فلسطين.
يوثق فيلم "حاملة الجمرة" الذي يعد شهادة تاريخية على فترة مهمة في تاريخ غزة تحديداً وفلسطين عموماً، حياة صهباء البربري وكيف تحولت من فتاة غضة إلى مثقفة ثم إلى شيوعية ثم إلى مناضلة ثم إلى سجينة ثم إلى امرأة قوية تزوجها فيما بعد الشاعر الفلسطيني المعروف معين بسيسو.
 مخرجة الفيلم نجاح عوض الله، زوجة الشاعر الفلسطيني خالد جمعة، لم يعنِها كثيراً كون صهباء زوجة الشاعر المعروف، بل إنها مرت سريعاً على حياتهما المشتركة، على الرغم من تشابهها مع بطلة فيلمها في الزواج من شاعر، إلا أن الشاعر ظل مجرد خلفية طوال الفيلم، جذبتها أكثر صهباء المرأة المناضلة القوية القابضة على الجمر، لدرجة أنها صدرت فيلمها بعبارة: " هل عليّ دائماً حين السؤال من هي صهباء البربري أن أضيف هي زوجة الشاعر معين بسيسو؟! هي صهباء ولها حكاية....." .
"احكي يا الراوي احكي حكاية، مادابيك اتكون رواية، احكي لي عن ناس زمان" هكذا مصحوبا بصوت الجزائرية سعاد ماسي يبدأ الفيلم ثم نرى يد صهباء النحيلة المعروقة وهي تدير الجرامافون ليخرج صوت أسمهان القديم قدم أول الحكاية التي تحكيها صهباء منذ ثلاثينات القرن الماضي حين ولدت، قدم صوتها العميق الصادر من جسد نحيل محدودب قليلا، قِدم شعرها الرمادي، قِدم صور طفولتها في حي الدرج في غزة هاشم، غزة القديمة التي يوجد بها قبر هاشم بن مناف جد الرسول عليه السلام، غزة تجارة البهارات والبخور ومعاصر الزيتون القديمة، حيث كان لجدها طاحونة سمسم تملأ أرجاء الحي برائحة السمسم، وإليها كانت تذهب حفيدته صهباء هي وأخوتها في الصباح ليقبلوا يده و ينالوا منه مصروفهم قبل ذهابهم إلى المدرسة. ثم حدثت النكبة وشاهدت صهباء هجرة اللاجئين إلى غزة عن طريق البحر، وشاركت مع جدتها وعمتها وأمها في تقديم المساعدات وخياطة الملابس لهم، ومنذ ذلك الحين - كما تروي صهباء- لعبت القضية الفلسطينية دوراً مهماً في حياتها.  

إلا أن مرض أبيها كان سبب في انتقال الأسرة إلى القاهرة حيث استكملت دراستها الثانوية في مدرسة الأميرة فوقية (الأورمان حالياً)، وهناك تفتحت مداركها، وقرأت لميخائيل نعيمة وجبران وغيرهم من الكتاب ومع إلتحاقها بكلية الآدب في قسم الاجتماع بجامعة القاهرة ومن خلال أخيها فاروق البربري تفجر وعيها السياسي وبدأت تتعرف على الحياة السياسية في مصر: عن الإخوان المسلمين والشيوعين وبإيعاز من أخيها انغمست أكثر فأكثر في النشاط الطلابي حتى صارت عضواً في رابطة الطلاب الفلسطينين وهناك صارت شيوعية.
وفي أثناء زيارتها هي ومجموعة من طلاب الجامعة للمعتقلين في سجن القناطر على خلفية أحداث هبة آذار (مارس) 1955 الرافضة لتوطين اللاجئين في سيناء أو ما كان يعرف "بمشروع سيناء"، تعرفت صهباء على معين بسيسو الذي كان ضمن المعتقلين وكانت تراه لأول مرة وحينها سألها عما ستفعله بعد تخرجها فقالت له "بدي أرجع غزة، لأني أريد أفيد الطالبات والمجتمع الفلسطيني بما تعلمته". بعد ذلك بعام خطبها معين بسيسو.
عند عودتها لغزة عملت صهباء مدرسة في المدرسة التي تعلمت فيها في صباها، أرادت أن تكون معلمة استثنائية، حاولت صقل قدرات الفتيات وتفتيح مداركهن الثقافية وبث القيم الوطنية فيهن، عملت – كما تروي في الفيلم – على تنشئة جيل جديد من الفتيات قادر على تحديات القضية الفلسطينية، إلا أن هذا العمل انقلب عليها فيما بعد. فمع تصاعد الحملات العدائية ضد الشيوعين خاصة بعد فشل انقلاب العقيد عبد الوهاب الشواف في 8 مارس 1959، فى الموصل ضد عبد الكريم قاسم، تم تحريك مظاهرات ضد الشيوعيين في مناطق كثيرة في الوطن العربي من بينها غزة وأخذت الطالبات في الهتاف ضد مدرستّهن الشيوعية والتنديد بها ووصل الأمر أن رفعن أحذيتهن في ووجهها ولكم أحزن هذا صهباء - وإلى الآن رغم مرور عقود لا يزال  ذلك يحزنها-. بعد ذلك قاد عبد الناصر حملة اعتقالات موسعة ضد الشيوعيين في مصر وسوريا والعراق طالت شيوعيين فلسطينيين فى قطاع غزة كان من بينهم معين بسيسو وخطيبته صهباء ثم تم نقلهم للسجن الحربي.
إثنان وأربعون يوماً قضتها صهباء في الحبس الإنفرادي في السجن الحربي، سجن الرجال، في زنزانة فوق غرف التعذيب حيث كانت تسمع أنات المسجونين وأصوات الكلاب وهي تنهش أجسادهم، وكان هذا تعذيباً في حد ذاته. بعدها تم نقلها إلى سجن النساء في القناطر مع شيوعيات مصريات منهن إنجي أفلاطون وثريا شاكر وجين سيداروس والممثلة محسنة توفيق، وهنا بدأت فترة من أغنى الفترات في حياة صهباء البربري قالت عنها أنها فادتها أكثر من قراءة مئة كتاب. تعلمت الانجليزية على يد صديقتها جين سيداروس، وعلمتهن التطريز الفلاحي الفلسطيني المعروف، وطبخت لهن "المقلوبة" وأكلات فلسطينية أخرى، وكانت تغسل الأرز المطبوخ بالماء وتعيد طبخه بالزبدة التي كانت تنزعها من الحليب المقدم لهن في السجن، كن لها رفيقات ومعلمات وكانت لهن "بلسم" –كما جاء على لسان رفيقاتها في السجن.
بعدها خرجت صهباء من السجن وعادت إلى غزة واستأنفت حياتها ثانية برغم نبذ الجيران وفصلها من عملها، إلا أن ذلك لم يكسرها، وظلت تواجه في شجاعة مجتمع تربص بها وأراد لفظها لكونها شيوعية. بعدها تزوجت من معين وبدأت حياة لم تعرف الاستقرار، تنقلت مع زوجها وأطفالها الثلاثة من غزة إلى القاهرة إلى بيروت وهكذا من بلد إلى بلد، لكنها وبقوة وصلابة حافظت على أسرتها ووفرت لمعين الجو الملائم كي يتسنى له إنجاز عمله الشعري والأدبي وكانت –كما وصفها أصدقاء مقربون - بمثابة الجندي المجهول في حياة الشاعر.


                                            مع بسيسو

هكذا نجحت المخرجة نجاح عوض الله بلغة بصرية بسيطة بلا تكلف في صناعة فيلم إنحاز للجانب التوثيقي في المقام الأول، فلقد استخدمت تعاقبات الشروق والغروب وفصول السنة ولقطات لشوارع غزة والقاهرة ولقطات للجدة صهباء مع حفيدتها جيفارا كفواصل بين حكي صهباء ورفاق لها ساهموا في قص مشوارها بالفيلم.كما جاءت اختياراتها الموسيقية من كلاسيكيات عربية ومن ألبوم "تماس" لسمير ووسام جبران موفقة، واستطاع المونتاج في تسع وأربعين دقيقة هي مدة الفيلم بالإمساك دون ملل بالخيوط المحورية لتاريخ الشخصي لامرأة غزية مناضلة لا تزال تتمسك بشيوعيتها التي كفر بها العالم وصارت كالجمرة في مجتمعها الذي تحكمه سلطة ذات مرجعية دينية.  
وتصف المخرجة نجاح عوض الله للجزيرة الوثائقية صعوبة تتبع خيوط حياة صهباء بين مدن القاهرة ورام الله وغزة، والبحث عن رفيقات صهباء في السجن اللواتي كن سعيدات بالحديث عنها، موضحة أن تصوير الفيلم تم في ظل جهد ذاتي سواء على مستوى السفر، او الكتابة أو تتبع خيوط الحكاية، وكذلك الانتاج قائلة: "واجهتني عقبة الانتاج فمثل ما يحدث في كل القنوات الحكومية التي توافق على انتاج فيلم من مماطلة وبيروقراطية وضعف تمويل والاعتماد فقط على اشياء لوجستية بسيطة مثل توفير الاضاءة وكاميرا، ولولا تصميمي وعنادي واهتمامي بصهباء وروح الفيلم لما تم انجاز الفيلم فالتأجيل كان مغامرة غير محسوبة".
وتضيف أن صهباء ذاتها رفضت الفيلم في البداية، فلم تتخيل فيلما عنها دون الحديث عن زوجها الشاعر معين بسيسو، كما هي معتادة، معتبرة ان قصتها متواضعة امام قصص الاخرين رغم ان عندها ما يُروى.
 ولفتت عوض الله إلى أن صهباء سرعان ما اقتنعت بفكرة الفيلم وبدأت تُخرج لها أرشيفيها وصورها وقصاصات ذلك الزمن، موضحة أنها بدأت تسجل حكايتها في البداية ولمدة سنة كاملة على اشرطة "كاسيت"،ما ساعدها في وضع بنية الفيلم، وبمجرد موافقة صهباء على الفيلم بدأ التسجيل بالكاميرا، مضيفة : "كنت معنية ان قصتها ما تضيع، فالزمن لن ينتظرنا إلى الابد".

 
         

قد ينال إعجابكم