برامج اليوم
00:00 عين على البلقان
01:00 بصمات
01:30 حكايات الشوارع
02:00 من قتل عرفات
يعرض الآن على شاشة الجزيرة الوثائقية 03:00 أسرار روما
04:00 سباقات التحمل
05:00 نسور في الجو
06:00 طرقات قاتلة
07:00 ابداعات هندسية
08:00 أميركا في عهد أوباما
اقرأ المزيد في (متابعات)
متابعات
أرسل الى صديق طباعة Share article
"المراسل الحربي": تساؤلات معذبة في زمن الحرب
آخر تحديث : الاربعاء 10 اكتوبر 2012   11:28 مكة المكرمة


أمير العمري

يثير الفيلم التسجيلي الكرواتي البديع "المراسل الحربي" (60 دقيقة) الكثير من التساؤلات ويعيد إلى الأذهان بوضوح، الكثير من الأفكار النظرية حول طبيعة الفيلم التسجيلي وشكله وحدوده ومدارسه وتطور نظرياته.
الفيلم الذي أخرجه سيلفستر كولباس وعرض في مسابقة مهرجان الاسماعيلية الخامس عشر، يثبت لنا أولا أن الفيلم التسجيلي لا يكون دائما عملا "موضوعيا"، يعبر عن رؤية "محايدة" أو يتظاهر بالحيادية، ويأتي التعليق الصوتي فيه وكأنه صوت القدر، أي لا علاقة مباشرة له بالمادة الموضوعية. وهو يؤكد لنا أيضا أنه ليس من الضروري أن يكون "التسجيلي" مرادفا للتوازن المفتعل الذي يأخذ في الاعتبار كل الأطراف، وهو أسلوب يطغى على التحقيق التليفزيوني الذي نشاهده كثيرا في الوقت الحالي، وهذه النقطة تحديدا هي التي تقودنا إلى رصد البعد الثالث المهم في هذا الفيلم، وهي أنه يعد نموذجا بديعا للفيلم التسجيلي الحديث الذي يتخلص تماما من طابع "الريبورتاج" التليفزيوني، رغم أن مادته الرئيسية أو موضوعه وخلفية مخرجه، هي خلفية ذات علاقة بالمادة الإخبارية ومتابعة الأحداث الجارية وتصوير الأخبار.

البعد الذاتي
كولباس في فيلمه هذا يروي قصته الشخصية مع الحرب في يوغسلافيا السابقة، وتحديدا النواع المسلح بين صربيا وكرواتيا، وهو يعود الى المادة البصرية التي صورها بنفسه هناك عام 1991، كيف وجد نفسه محاصرا في بلدة يعيش فيها جماعات من الصرب والكروات، وكيف كان يتعين عليه أن يدفع الثمن.
إنه يتوقف أمام عمل المراسل الحربي من خلال التجارب التي يعايشها من حوله، مع زملائه المصورين والمراسلين الذين يرغبون في النفاذ من الحصار لكنهم مضطررون للبقاء بعد أن انقطعت بهم السبل، يستغلون الفرصة لنقل مشاعرهم وتسجيلها أمام الكاميرا.
كيف كان تأثير الحرب على البشر في تلك البقعة التي تتداخل فيها القوميات إلى حد مذهل وأحيانا مزعج وملتبس بالنسبة للكثيرين؟
إنه يستخدم المادة التي تتعلق بأسرته (زوجته وابنه وأبويه وأقاربه) وبه هو نفسه، بمسار حياته وحياة أسرته في تلك الفترة العصيبة من تاريخ بلاده، لكي يعرض لنا نموذجا على ما كان يتعين على الناس العاديين أن يدفعوه من ثمن باهظ لهذا النزاع المسلح.
ولعل البطل الرئيسي في هذا الفيلم هو الكاميرا، فالرجل.. المخرج.. الراوي.. هو أساسا مراسل حربي تليفزيوني، ترك أسرته وذهب الى تلك المنطقة لنقل أحداث النزاع.
الراوية- المخرج- المصور- الأب- البطل- اللابطل- الضحية، هو الذي نسمع صوته على مدار الفيلم، يأتينا من خارج الصورة، ولكن على عكس "صوت القدر" الموضوعي، ينطلق من الذاتي، إلى العمومي، ومن الخاص إلى العام، ويعود ويرتد إلى الإنساني والذاتي طيلة الوقت.
يبدأ الفيلم من البعد الذاتي للقصة، قصة كولباس نفسه، أولا من حيث علاقته بالصورة التي هي أساس الفيلم ومن دونها ليس لدينا فيلم بل وربما لا وجود لكولباس نفسه!
في البداية لقطات للقصف على زغرب.. دخات كثيف يرتفع من اعلى احدى البنايات ويطير آلاف الحمام هاربا من جحيم القصف. نرى لقطة للحمام الطائر ثم تتجمد الصورة ويظهر عنوان الفيلم.
الجزء الأول من الفيلم يأتي في معظمه بالأبيض والأسود.. أصل التصوير الفوتوغرافي، عشق بطلنا وهوايته ومهنته لسنوات عدة، ليس رغبة في اكتساب العيش بل حبا في معرفة الكثير عن الناس، عن العالم، عما يجري حوله.


تساؤلات
يطرح كولباس من البداية تلك التساؤلات الوجودية المعذبة مثل: ما هي الصورة؟ هل هي الحقيقة؟ ويجيب: "الصورة ليست الحقيقة. لا أعرف أهمية ما أقوم بالتقاطه من صور. سأمنح جائزة نوبل لمن يمكنه أن يقول لي هل الصور أهم من اللحظات التي أقوم بتصويرها في الحياة الحقيقية"؟
على خلفية من شاشة بيضاء تظهر صورة شاب يافع مع كاميرا فوتوغرافية. إنه كولباس نفسه في شبابه الغض. ثم تظهر صور من شرق كرواتيا في سبعينيات القرن الماضي.. الشوارع.. السيارات.. البشر. ونسمع تعليق المخرج يقول لنا: إنني أعرف كل شيء من خلال الصور.
لقطات له مع اصدقائه، في الحقول، وهم يلعبون الكرة، وهو فوق الدراجة، وهو يصطاد السمك.. لقطات لامرأة تنشر الملابس في العراء، رجل فوق حصان، الحياة تشع بالبراءة والرومانسية والجمال. والموسيقى ناعمة رقيقة مرحة وكأننا أمام صورة تعكس الحنين الكبير إلى الماضي، دائما الماضي أجمل عند كل من يشعرون بحقيقة المأساة الإنسانية، المأزق الإنساني الذي نعيشه ويتضح لنا يوما بعد يوم، مع تقدمنا في العمر.
هذا الفيلم عن الحرب، وعن البشر عندما كانوا يصنعون الحياة، وكيف أصبحوا يصنعون الموت. لكنه ليس فيلما تحليليا سياسيا عن أسباب الحرب وما الذي حدث تحديدا في تلك المنطقة من العالم، يوغسلافيا السابقة، كرواتيا، وصربيا والحرب الضروس التي دارت بينهما في أوائل التسعينيات من القرن العشرين، بل هو أساسا، فيلم عن المأزق الإنساني، عن طبيعة الصورة، عن قدرتها الهائلة على الكشف وعلى الكذب أيضا، على استدعاء اللحظات النادرة في التاريخ، وعلى توثيق لحظات الحسم وكيف تترك تأثيرها التراجيدي الهائل على مصائر البشر. ويمكن أيضا اعتباره فيلما عن الطفل وهو يكبر ويصبح شابا ثم رجلا مسؤولا.. رب أسرة.. يخشى على أسرته، يجبن عن الاختيار لأنه يتعين عليه القبول بما لم يكن ليقبل به وهو صغير. إنه فيلم عن القدر الإنساني.

شريط صور
علاقة كولباس بالتصوير هي المحور الأساسي الأول في الفيلم. وكذلك علاقته بأسرته، بأصوله. فالفيلم رحلة في كابوس الحياة بما فيها الحرب والحب والأسرة والواجب والعمل والضياع والعشق والخوف.. لكنها أيضا رحلة من أجل معرفة الذات.. حقيقة النفس.
من هو كولباس؟ يقول هو إنه يعتبر نفسه روثينيا Ruthenian   رغم أن أمه كرواتية، وكان والده كان يصر على أن الروثينيين ليسوا من الروس.. لقد جاءوا إلى هذه المنطقة من جبال الكربات، ولديهم لغتهم الخاصة الروثينية (لغة قديمة كان يتكلمها سكان أوروبا الشرقية)، وهم ينتمون للكنيسة الكاثوليكية اليونانية!
حياة كولباس شريط من الصور: صوره مع أسرته، مع حبيبته التي تعرف عليها وقدمها لأسرته قبل أن يتزوجها، صور الزواج، زوحته تحمل في طفلهما الأول ثم تلده.. كل شيء مسجل بالصور.. عشرات الصور واللقطات.. كيف كان يتعين عليه- بعد ذلك- الالتحاق بوظيفة مصور في التليفزيون الكرواتي في زغرب ويهجر التصوير الفوتوغرافي..عشقه الحقيقي.. كان يصور الأحداث الجارية والأخبار. كان يبحث عن الجمالي بينما يقول له زملاؤه إن الجمالي ليس مهما بقدر أهمية المضمون، محتوى اللقطة، وهذا هو درس العمل في التصوير للأخبار.


بعد احتفالات رأس العام 1991 لم يعد الحال إلى ما كان عليه أبدا بالنسبة لشعوب يوغسلافيا.. بدأت الاستعدادات للحرب لكن كولباس رفض أن يصدق هذا. وجد نفسه مرة اخرى يقطع ربوع كرواتيا ولكن هذه المرة كما يقول: "بحثا عن الأخبار السيئة"!
وندخل من هنا إلى الجزء الثاني من الفيلم الذي يمكن أن نطلق عليه "الخوف" ذلك الخوف الغريزي من المجهول القادم الذي يمكن أن يطيح بكل ما صنعه المرء في حياته. كولباس خائف.. يذهب الى مدينة باكراش Pakrac مع مراسل سويسري، فريق التصوير معه من الكروات، بينما السائق صربي.. الجميع لا يثقون في بعضهم البعض.. الخوف يشملهم جميعا.. الناس.. السكان.. خائفون، مرتعدون. يروون أمام الكاميرا كيف يستقبلون الأحداث وما الذي عايشوه: الطرد الجماعي والقتل الجماعي والدفن في حفر كبيرة. حرق المنازل والتهجير القسري. بدء سياسة التطهير العرقي. اختلاط الأجناس في البلدات والقرى يجعل الحرب شديدة الخصوصية، شديدة التعقيد، باهظة الوقع على السكان الأبرياء. لا توجد هنا إدانة لطرف دون الطرف الآخر. بل للحرب نفسها، لغباء الإنسان.
يصور كولباس مظاهرات حاشدة تهتف أمام المحكمة العسكرية في زغرب، تنادي بالحرب.. يكاد يفلت من اعتداء الجموع بمعجزة. لقد ظنوه مصورا من بلغراد، أي من صربيا!
في إحساس وجودي بالعبث يقول: أحيانا لا أعرف ما إذا كنت أخاف أكثر من الجنود الصرب أم من حشود الكروات الغاضبين.
في فنكوفيتشي التي كان يقيم فيها مع أسرته الصغيرة وهي بلدته الأصلية التي نشأ فيها صغيرا، الجموع تهتف للتعصب العرقي، لكرواتيا التي يجب أن تقهر عدوتها صربيا.. ترتد الذاكرة إلى المكان نفسه، إلى أعلام كرواتيا أيضا ترتفع، يحملها المتظاهرون، ولكن للاحتفال وليس للاحتجاج كما يقول بطلنا. عودة إلى اللقطات والصور الفوتوغرافية بالأبيض والأسود لذلك الماضي المسالم الذي كان. موسيقى الأكورديون والاحتفالات الجماعية في الشوارع. يضطر لأن يذهب بابنه الصغير الى منزل جدته في بلدة أخرى. رسومات الابن البديعة التي تعكس إحساسه بوالديه، بالجو العام المحيط: أعلام كرواتيا الملونة.

في مواجهة الخطر
يعود وحده في مهمة الى خط النار في فنكوفيتشي.. وفي مشهد هائل لا يمكن تصديقه يلمح امرأة مع ولدها تختبيء من القصف وراء سيارة.. يتعرف فيها على جاراتهم من الزمن الماضي: لقد كان والده أحد شاهدي زواجها. ونرتد إلى صورة فوتوغرافية لحفل الزواج. لكنها الآن خائفة، لا يمكنها أن تتعرف عليه، ترفض الإجابة عن أسئلته حول ما يجري في بلدتها.
يطرح التساؤلات عن طبيعة عمل المراسل أو المصور الحربي: "هل إذا لم نصور الدماء والجثث لا نحصل على مرتباتنا وعلاوتنا؟ هل هذا هو المطلوب؟ أي مهنة هذه"؟
البلدة التي ينتمي الهيا وفيها ولدت ذكرياته وعرف الحب الأول، هي موقع القتال الآن، لقد انقسمت إلى قسمين، منازل الصرب أصبحت خالية، لجأ السكان إلى القسم الثاني حيث التحصينات. المراسلة الصحفية تقف أمام الكاميرا تصف كيف أصبح الوضع في البلدة. الصحفيات المساء أكثر إقبالا على الخطر من الرجال. بعضهن لا يستطيع رغم ذلك التماسك أمام الكاميرا. العاطفة تغلبهن. مشاعر الصدمة.
القناصة.. الموت.. القتل.. الصلوات في الكنائس على الموتى.. المدافن وشواهد القبور. كيف خرجت زميلة صحفية ليلا في البلدة تتجول وتركت مسدسها في غرفتها بالفندق الذي كانت تقيم فيه إلى جوار كولباس، وما وقع لها من مأساة: لقد أصيبت بجروح خطيرة وفقدت ابنتها!
نرى كيف يصور أول جثة لشاب قتل في هجوم صربي، في أول لقطة قريبة للجثة.. بعدها يقول إنه اعتاد بعد ذلك ولم يعد يفزع من تصوير مشاهد الحرب المفزعة طالما أنه وراء الكاميرا.. هل تجعل منه الكاميرا مجرد "مراقب"!
الارتداد دائم في الفيلم بين لقطات الماضي من هذه البلدة ولقطات الحاضر، من الأبيض والأسود، واللقطات الرومانسية الناعمة للبشر في حياتهم اليومية، واللقطات الملونة الفظة التي تعكس الخوف والترقب والقلق والاعتداء على البصر أيضا بما تعرضه الكاميرا من مناظر للجثث المتعفنة.


يتعرض الفندق الذي يقيم فيه للقصف. سقطت 700 قذيفة اثناء الليل. يتمنى هو أن يستمر القصف حتى النهاية. لكنه يتوقف. انفجرت أنابيب المياه فأغرقت المكان. يقول إنه شعر بأن أهم شيء على الإطلاق في تلك اللحظة أن يتضامن الجميع مع بعضهم البعض.
يشاهد من نافذة حجرته في الفندق كيف يتعرض المنزل الذي تقيم فيه أمه للقصف، يتصاعد منه الدخان لكنه لا يستطيع الذهاب إلى هناك بسبب الخطر الكامن في كل مكان.  سقف منزل الأسرة، حيث تقيم الأم، دمر تماما لكنها ترفض النزوح من البلدة إلى أن ترضخ أخيرا وتوافق على الذهاب إلى زغرب.

الحرب والذات
من هنا يبدأ القسم الثالث من الفيلم: لقد أصبحت الحرب هي حربه الخاصة.. هنا تأتي الحرب كشيء عبثي يسيطر على المرء فلا يمكنه أن يفصل نفسه عنه ولا أن يحتمي منها وراء الكاميرا. إنه يتطلع أمامه فيجد مكتبة البلدة وقد دمرت تماما واخترق ما فيها من كتب، فيرتد إلى شبابه عندما كان يتردد على تلك المكتبة ينهل منها، في لقطات فريدة لم يكن يتخيل أنها ستصبح مادة مرتبطة بتلك الأحداث اللاحقة بعد سنوات طويلة.
تركت الحرب تأثيرها عليه وعلى أسرته، لم تعد علاقته بزوجته كما كانت قط، ولا مع ابنه. الصور المرعبة التي شاهدها وصورها والتي نرى منها الكثير في هذا الفيلم البديع، ظلت في داخله لأكثر من عشرين عاما. وهو عندما يصنع اليوم هذا الفيلم فإنه لا يصنعه لكي يقدم لنا شيئا لا نعرفه، بل لكي يفهم هو ما يعرفه ولم يستطع أبدا أن يفهمه.
هذه العلاقة الجدلية المستمرة المقلقة بين الكاميرا وصاحبها، بين الصورة والمحتوى، الماضي والحاضر، المادة المصورة، والإنسان وراء الكاميرا وأمامها، عبثية الاختيار الإنساني، والقدر الذي قد يسوقنا إلى أن نخبر ما لا نحب، ونحب مالا نريد، هذه هي مادة هذا الفيلم الكبير "المراسل الحربي"، وفي تلك الثنائيات والتناقضات والتساؤلات المققلقة تمكن عظمته، خصوصا وأنه مصنوع ببراعة وشفافية ورونق، لا أقصد انه يجمل لنا القتل، بل لقدرته على التوقف أمام تلك الآلية الرهيبة التي ابتكرها الإنسان، لكي يطرح التساؤلات المعذبة الفلسفية حول مغزى الوجود نفسه، وما يمكن أن ينتهي إليه الإنسان في لحظة ما برصاصة طائشة أو بلغم ينفجر فجأة.
"المراسل الحربي" درس في السينما التسجيلية الحديثة: درس بليغ يتلخص في التالي.. القدرة على خلق التدفق من حلال التراكم الصوري، مع أسلوب يتمتع بقدرة هائلة على التحكم في ذلك التدفق، في إيقاع تعاقب الصور واللقطات، في المزج في اللحظة المناسبة، بين الصور الفوتوغرافية واللقطات الحية، بين الماضي والحاضر، الذاتي والموضوعي، وبين الموسيقى والصورة، ويعرف ايضا متى يتوقف عن التعليق ويترك الصور تتنفس. وتلك هي بلاغة التسجيلي!

 

 

 

 

 

 

 

الى الأعلى
تعليقات القراء: + - 
التعليقات لا تعبر إلا على رأي أصحابها.
  تعليقك على الموضوع:
الاسم:*
البريد الإلكتروني:
عنوان التعليق:*
محتوى التعليق:*
(*) هذه الحقول مطلوبة