برامج اليوم
00:00 اقوى اعاصير الماضي
01:00 يوميات الثورة المصرية
02:00 رؤى مستقبلية
03:00 للواحات قصة
04:00 نساء في مجتمعات نائية
05:00 قصة الهند
06:00 تحت المجهر – مروّح على مصر
07:00 يوميات الثورة المصرية
يعرض الآن على شاشة الجزيرة الوثائقية 08:00 رجل من كارمكول
09:00 ذاكرة الحيطان
اقرأ المزيد في (متابعات)
متابعات
أرسل الى صديق طباعة Share article
"جانجو طليقا" (2 من 2)
آخر تحديث : الخميس 07 فبراير 2013   10:44 مكة المكرمة

البطل الأسطوري والإفلات من المصير


أمير العمري

التأثير الإيطالي
مرة أخرى يستند تارينتينو إلى فيلم إيطالي من أفلام الماضي (هو دائما يعتز بالعودة إلى أصوله الثقافية الإيطالية) ويقدم تحية لفيلم كوربوتشي الشهير من الستينيات، تماما كما سبق أن جعل العمود الفقري لفيلمه السابق "أوغاد مجهولون" Inglorious Basterds مبنيا على الفيلم الإيطالي Macaroni Combat  (1978) للمخرج إنزو كاستيلاري Castellari. وهو يعود هنا إلى "جانجو" لكوربوتشي. وكما كان يستوحي في المشهد الأول الطويل في "أوغاد مجهولون" من فيلم "حدث ذات مرة في الغرب" لسيرجيو ليوني، يعود لكي يستوحي الكثير هنا من ليوني أيضا، ولكنه ينجح في خلق ذلك الثنائي الأبيض والأسود، ويجعل الأبيض ألماني الأصل، يرفض العبودية لكنه يقوم بعمل لا يختلف كثيرا- كما يقول في الفيلم- عن تجارة العبيد، فهو يتاجر في الجثث لكنه يبرر ذلك بأنه يقتل أناسا قتلوا وسرقوا واعتدوا. 

شولتز (البطل التقدمي) يقوم بتعليم جانجو الرماية والقراءة، ويدربه على كظم الغيظ والتحكم ببرود في أعصابه، والمراوغة والخداع، فهو يصبح بالنسبة له "نموذج الأب"، ولكن من دون وصاية بل في إطار الصداقة.


المحاكاة الساخرة
بناء الفيلم يقوم على الانتقال بين الماضي والحاضر، ويتجسد الماضي في لقطات خاطفة احيانا بالحركة البطيئة كنوع من التداعيات التي تتراكم في ذهن البطلين،  والأحداث تقع عام 1858 قبل عامين من الحرب الأهلية، وقبل نحو 10 سنوات من ظهور عصابة الكوكلوكس كلان العنصرية  (ظهرت في أواخر الستينيات من القرن التاسع عشر) التي كانت تقوم بالهجوم على السود وحرق بيوتهم وقتلهم. إلا أن تارنتينو المخلص دائما لتقاليد ما بعد الحداثة postmodernism لا يهتم بخلط الأزمنة وتداخلها فهو لا يقيم وزنا للدقة التاريخية، ولا لوحدة الأسلوب. إنه مثلا يقدم محاكاة ساخرة parody لمشهد رئيسي في الفيلم الشهير "مولد أمة" Birth of a Nation  لرائد الفيلم الروائي الأمريكي ديفيد وارك جريفيث، عندما نرى جماعة من البيض يحاولون الهجوم على شولتز ورفيقه الأسود جانجو للفتك بهما، لكنهم يفشلون في وضع القلنسوات البيض فوق رؤوسهم ثم يرتبكوا ويشعروا بأنها تعوقهم عن الرؤية، في مشهد ساخر يجعل منهم أضحوكة بغبائهم وجهلهم وجبنهم، على العكس مما في فيلم جريفيث بالطبع!

لكن المحاكاة الساخرة ليست هي أساس الفيلم بل ما يعرف في تقاليد ما بعد الحداثة بمحاكاة أفلام أخرى أو pastiche التي تبتعد عن السخرية (الموجودة عادة في البارودي) بل هي محاكاة في جدية وتقدير وإعجاب. هناك مثلا استلهامات من "ماندنجو" كما أشرنا، ومن "سبارتاكوس" (صراع العبدين ثم قتل المهزوم بقسوة).. وهناك تأثر ما بفيلم "الرجل الكبير الصغير" The Little Big Man للمخرج الأمريكي الراحل الكبير آرثر بن، في مشاهد الثلوج التي تعيد إلى الأذهان دون شك، فيلما آخر من السينما الإيطالية لاشك في تأثر تارانتينو به هو "الصمت العظيم" The Great Silence وهو من إخراج سيرجيو كوربوتشي أيضا، و"الصمت" أو سايلانص هنا هو إسم بطله  (يقوم بالدور جان لوي ترانتنيان")، ومنه يستمد تارنتينو فكرة الرجال الذين يتعقبون الخارجين عن القانون لقتلهم (المفترض العودة بهم أحياء أو أموات).. كما يحاكي المشاهد الكثيرة في هذا الفيلم التي تدور في الجبال المغطاة بالثلوج في ذروة الشتاء. وهناك تأثر واضح في مشاهد العنف الأخيرة المليئة بالقتل مع التصوير البطيء بفيلم "عصبة الأشرار" The Wild bunch لسام بكنباه.

عن الممثلين
ويبرز هنا أيضا عامل آخر في سينما ما بعد الحداثة يتجسد في اختلاط الأساليب أي عدم احترام مبدأ وحدة الأسلوب، فنحن ننتقل من أسلوب فيلم الويسترن سباجيتي (في الساعة الأولى) إلى الفيلم التاريخي إلى الدراما المثيرة إلى النقد الاجتماعي. لكن الجميل أن تارنتينو يتمكن من حبك كل هذه الأساليب والعناصر معا وينجح في جعل فيلمه فيلما مثيرا، عنيفا بدون أن يفقد روح المرح وطابع السخرية، حواره مكتوب بعبقرية ودقة، ومشاهده تصل أحيانا إلى السيريالية (ليس من الممكن تصديقها على الصعيد الواقعي) أي أنه يتجنب فكرة الإيهام بالواقع أو الحقيقة التي تلعب عليها السينما منذ نشأتها في الأفلام التقليدية conventional كما أنه يجيد تحريك الممثلين واختيارهم: كريستوف فالتز النمساوي في دور شولتز.. حيث يخلق بأدائه الواثق، وأسلوبه الخاص في التعبير الساخر عن الشخصية واستخدامه الشخصي للغة ومفرداتها ولحركات جسده، أداء عبقريا كان يستحق أن يرشح عنه لجائزة أحسن ممثل، وليس أحسن ممثل ثانوي، فهو بطل الفيلم الحقيقي بدون منازع. تأمله في المشهد الذي يلمح فيه بذكاء وفطنة كيف أن مضيفه (دي كابريو) المغرم بالثقافة الفرنسية، يطلق أسماء فرنسية على عبيده من "المادينجو" مثل "دارتانيان" فيقول له شولتز إن بطل "الفرسان الثلاثة" لألكسندر ديماس لم يكن ليرضى بميتة كهذه (طعاما للكلاب).. ولكنه يفاجيء مضيفه الشرس المعتد بنفسه بصدمة تشله عندما يخبره بأن ألكسندر ديماس الذي يغرم به، كان من أصول زنجية أي لم يكن أبيض!

وهناك ليوناردو دي كابريو الذي يقوم بدور السيد كاندي صاحب الإقطاعية السادي المغرم باستعراض قدرته على إنزال العقاب وتعذيب ضحاياه من العبيد السود في عنصرية بغيضة، منتقلا بين الرقة والخشونة، وبين النعومة والترحيب، إلى الزمجرة المتوحشة والانتقال للعنف المجنون كشخصية مريضة بحب التملك والاستمتاع بالملكية في أقصى درجاتها إمعانا في إهانة الآخر- الإنسان- المستعبد!

مباراة ممتعة في الأداء بين فالتز ودي كابريو، يدعمها ويقويها ذلك الأداء القوي البارز والحضور الخاص لشخصية "جانجو" كما يؤديها جيمي فوكس: قوة شكيمة، ضعف ظاهري في البداية ثم عنف داخلي كامن ينتظر الانفجار (يقول لدكتور شولتز: سأرافقك ليس من أجل المال بل لأني سأستمتع بقتل البيض الأوغاد!).. حب وإخلاص حتى النهاية لزوجته، التي يضحي بنفسه من أجل تحريرها.

وأخيرا أداء هائل من جانب صامويل جاكسون في دور ستيفن، ذلك الوغد الذي لا يرعوي، بل يظل متسلطا على رفاقه السود متصورا أن إرضاء سيده كفيل بحمايته حتى النهاية، لكنه يفقد نفسه ويحترق في الجحيم كأي شيطان صغير!

شريط الصوت في الفيلم عمل فني قائم بذاته يستحق دراسة خاصة: مزيج من الأغاني المكتوبة خصيصا لكي تعكس روح الفيلم وأجواءه منها أغنية من تلحين إنيو موريكوني كاتب موسيقى الكثير من أفلام الويسترن سباجيتي وخاصة أفلام سيرجيو ليوني. وقد فضل تارانتينو الاستعانة بعدد من الأغنيات والتيمات المنفصلة من تأليف موسيقيين مختلفين بدلا من إسناد الموسيقى إلى مؤلف واحد، وربما يكون هذا الأمر قد تسبب في عدم تجانس الموسيقى، خاصة وأنه يستخدم أيضا مقطوعات من بيتهوفن وفيردي وغيرهم.

وإمعانا في تأكيد الطابع الشعبي الأسطوري للفيلم والرغبة في أن يجعل منه عملا جماهيريا قريبا من المشاهدين، لا يجعل تارنتينو بطله يقتل في النهاية على غرار مصير بطل فيلم "جانجو" لكوربوتشي، كما كان ينبغي أي عند النقطة"المنطقية" التي كان يمكن أن يصل الفيلم إلى نهايته عندها، أي بعد أن قتل شولتز كاندي ثم يقتل حراس كاندي شولتز، لكنه يبقي عليه ويجعله يتفوق على كل الحراس ويقتلهم جميعا بذكائه وحيلته، بل ويتمكن من قتل كل أهل البيت بعد عودتهم من جنازة السيد كاندي، ثم ينجح في تحرير زوجته والهرب معها في النهاية مكرسا فكرة البطل- الأسطوري، فالأهم- طبقا لمنطق ومباديء ما بعد الحداثة، ليس خلق عمل فني رفيع، بل التمتع بروح "الشعبية" التي تجعل الفيلم يقترب أكثر من الجمهور.

هناك بعض الاستطرادات في المشاهد الأخيرة من الفيلم نتيجة الرغبة في الخروج من مأزق النهاية القاتمة، والتمهيد لكيفية هروب جانجو من الأسر، فنرى كيف يتمكن من خداع الحراس الثلاثة الذين يسوقون العبيد وهم معهم، للعمل حتى الموت في أحد المناجم، لكنه يقنعهم  بالتعاون معه في اقتناص الخارجين على القانون (مستخدما نفس الحيلة التي تعلمها من أستاذه شولتز) ثم يقتلهم جميعا (ومن بينهم تارنتينو الذي يؤدي دورا صغيرا كعادته) ويطلق سراح العبيد ثم يذهب لإنقاذ زوجته. هذه المشاهد تسببت في إحدث بعض الخلل في إيقاع الفيلم.

وكانت مشاهد المناقشات الطويلة حول مائدة الغذاء مع كاندي قد تسببت أيضا في هبوط الإيقاع العام للفيلم لكن ليس من الممكن تجاهل أن المشهد يستعيد قوته مع الكشف عن العنصرية العميقة الجذور داخل شخصية كاندي عندما يأتي بجمجمة عبد كان قد خدم أسرته كثيرا بل وساهم في تربية ثلاثة أجيال منها، ثم يقطع منها قطعة من الجمجمة ويشير إلى ثلاث نقاط ويقول إنها عند الرجل الأبيض قد تشير إلى القدرة على الإبداع في حين أنها في حالة السود تشير إلى شيء واحد هو أنهم خلقوا لكي يكونوا عبيدا!

سيتوقف الكثير من العلماء أمام هذا المشهد القوي من الفيلم لمناقشة ما يكشف عنه من اعتماد العنصرية الأوروبية لعقود علىنظريات من هذا النوع في التعامل مع الآخر، الذين اتوا به مقيدا، من إفريقيا.

إن "جانجو طليقا" يظل أحد أفضل الأفلام التي تناقش موضوع العبودية في السينما الأمريكية واكثرها أيضا أصالة في المعالجة ومتعة في مشاهدة ما يحتويه من خيال وقدرة على التجسيد والتأثير.

الى الأعلى
تعليقات القراء: + - 
التعليقات لا تعبر إلا على رأي أصحابها.
  تعليقك على الموضوع:
الاسم:*
البريد الإلكتروني:
عنوان التعليق:*
محتوى التعليق:*
(*) هذه الحقول مطلوبة