إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الحرب الأهلية اللبنانية






مواقع المخيمات الفلسطينية
مواقع المخيمات الفلسطينية
لبنان - التوزيع الطائفي
الجمهورية اللبنانية
تعداد الفلسطينيين بلبنان
جنوب لبنان



المبحث الثاني

5. الوساطة السورية

جرى، خلال الحرب اللبنانية، مساعٍ كثيرة، للتوسط بين اللبنانيين، أو للاستطلاع، من قِبَل دول وهيئات عديدة، مثل فرنسا والفاتيكان وجامعة الدول العربية والولايات المتحدة الأمريكية والأمين العام للأمم المتحدة وبعض الدول العربية. ولكنها لم تُؤتِ ثمارها المرجوّة.

وفي 23 مايو 1975، شُكِّلت حكومة عسكرية لبنانية، برئاسة نور الدين الرفاعي، حظيت برضى حزبَي الكتائب والوطنيين الأحرار. لكنها اضطرت إلى الاستقالة، نتيجة لضغط الشارع الإسلامي، والقوى الوطنية والتقدمية الأخرى.

وفي 2 يوليه 1975، شُكِّلت حكومة "إنقاذ وطني"، برئاسة رشيد كرامي، عُهد فيها إلى السيد كميل شمعون، رئيس حزب الوطنيين الأحرار، بوزارة الداخلية.

كان توقيع اتفاقية سيناء، بين مصر وإسرائيل، في 4 سبتمبر 1975، إيذاناً بانفجار التصادمات المسلحة، بعد فترة من الهدوء، دامت نحو شهرين.

لم تتوقف الاتصالات بين بيروت ودمشق، إذ تواصلت الوساطات السورية، حتى نجحت إحداها، بعد عام كامل من الاشتباكات المسلحة والعنف المتبادل، في التوصل إلى صيغة للحل، في 14 فبراير 1976، تجسدت في خطة إصلاحية، عرفت، في حينه، باسم "الوثيقة الدستورية".

أوضحت الخطة كيفية تعامل السوريين مع الصراع اللبناني، والحدود التي تتحكم في هذا التعامل. كما تكشف كيفية تحليل الأزمة اللبنانية، من قبل السوريين وسائر الفصائل اللبنانية.

6. الخطة الإصلاحية السورية، أو "الوثيقة الدستورية"

إن الإشارة الأولى إلى وجود خطة سورية، لإعادة التوازن الطائفي إلى لبنان، تتضمن اتفاقاً لبنانياً ـ فلسطينياً، صدرت عن الإمام موسى الصدر. فعلى أثر تدمير القوات المسيحية، في 18 يناير 1976، الكرنتينا والمسلخ، في الضاحية الشمالية لبيروت، حيث كان يقيم آلاف من الأكراد، والشيعة الجنوبيين، والفلسطينيين. وسقوط الجيّة والسعديات والدامور، الواقعة على مسافة عشرين كم، جنوب بيروت، بعد أن اجتاحتها القوات الفلسطينية والتقدمية اللبنانية، في 19 و20 يناير 1976. وصل إلى بيروت، في 21 يناير 1976، عبدالحليم خدام، وزير الخارجية السوري، يرافقه اللواء ناجي جميل، قائد القوات الجوية السورية، في مهمة وساطة جديدة، أدت إلى اتفاق على وقف إطلاق النار.

وفي اليوم الثاني، أي في 22 يناير، أعلن سليمان فرنجية، رئيس الجمهورية اللبنانية، قبوله بحل سياسي للأزمة. وفي 28 يناير 1976، وعد الرئيس رشيد كرامي، رئيس الوزراء اللبناني، بميثاق وطني جديد.

وبعد زيارة دمشق، في 7 فبراير 1976، أعلن الرئيس فرنجية، في خطاب ألقاه في 14 فبراير، عبْر الإذاعة، خطة الإصلاح أو "الميثاق الوطني الجديد"، الذي عُرف، في حينه، باسم "الوثيقة الدستورية".

وبين 15 و20 فبراير 1976، كان في بيروت وفد سوري، مؤلف من عبدالحليم خدام، وزير الخارجية، واللواء حكمت الشهابي، رئيس أركان الجيش السوري، واللواء ناجي جميل، يفاوض السيد ياسر عرفات، حول سُبُل جديدة لتطبيق اتفاق القاهرة، استناداً إلى ما أشارت إليه "الوثيقة الدستورية"، التي نصت على ما يلي:

  1. تأكيد العُرف السائد، فيما يتعلق بالتوزيع الطائفي للرئاسات الثلاث، رئاسة الجمهورية للموارنة، ورئاسة مجلس النواب للمسلمين الشيعة، ورئاسة مجلس الوزراء للمسلمين السُّنة.
  2. توزيع مقاعد مجلس النواب، بالتساوي، بين المسلمين والمسيحيين.
  3. انتخاب رئيس مجلس الوزراء من قبل النواب، بالأكثرية المطلقة.
  4. تصويت مجلس النواب، بأكثرية ثلثَي أصواته، في شأن المسائل الحيوية. وتكون أكثرية الثلثَين ضرورية، في الدورة الأولى لانتخاب رئيس الجمهورية، وتخفّض إلى نسبة 55 %، في الدورة الثانية.
  5. إنشاء محكمة عليا، تكون مهمتها محاكمة رؤساء الجمهوريات والوزراء، عند الحاجة. وكذلك، النظر في دستورية القوانين.
  6. تأدية رئيس الوزراء والوزراء اليمين، أمام رئيس الجمهورية.
  7. توقيع المراسيم والقرارات ومشاريع القوانين، من قِبل رئيس الجمهورية والوزراء معاً، عدا مرسوم إقالة الوزراء.

كما نصت الوثيقة على إصلاحات أخرى، تهدف إلى تدعيم استقلال القضاء، والإسراع في إصدار المراسيم والقرارات، وإلغاء النظام الطائفي في الوظائف العامة. كما أشارت إلى إنشاء مجلس أعلى للتخطيط والتطوير، وإصلاحات، ضريبية واقتصادية، تهدف إلى التوزيع العادل للثروات، وإقرار التعليم المجاني، والإلزامي. وكذلك، تحديث المناهج التربوية، وإعداد سياسة دفاعية، وإعادة تنظيم الجيش، والمحافظة على حرية الصحافة.

7. ردود فعل الأطراف المتنازعة إزاء الدور السوري

لم ترضِ "الوثيقة الدستورية" أيّاً من المتنازعين؛ إذ لم تكن عروبة لبنان، ولا الإصلاحات المقترحة، ولا تنظيم وجود الفلسطينيين في لبنان، لتحظى برضى اليمين المسيحي. كما أن ترسيخ طائفية الرئاسات الثلاث، بنص "دستوري"، أو شبه دستوري على الأقل، وتجميد عملية التغيير، والإشراف السوري، ما كان لها أن تحظى، هي الأخرى، بقبول أطراف الساحة الإسلامية والتقدمية اللبنانية. وإذا كل الأطراف، تقريباً، بمن فيهم الفلسطينيون، يضيقون بالإشراف السوري المتزايد على الساحة اللبنانية، ويرفضونه.

وبالفعل، أعلن صائب سلام وريمون إده، رفْضهما لترسيخ "طائفية الرئاسات الثلاث". كما عاب كمال جنبلاط، قائد "الحركة الوطنية اللبنانية"، على الوثيقة، خلوّها من مشاريع الإصلاح، الاجتماعي والاقتصادي. أمّا المنظمات الفلسطينية، فجاهرت برفضها للإشراف السوري على لبنان. وألحّ الزعماء المسيحيون على أولوية إعادة السيادة الوطنية إلى كل الأراضي اللبنانية، على أي تدابير أو إجراءات أخرى.

وفي تلك الأثناء، كانت حركة أحمد الخطيب، الذي أعلن تمرده على قيادة الجيش اللبناني، وأنشأ "جيش لبنان العربي"، منذ أواخر يناير 1976، تنتشر وتهدد الجيش اللبناني بالتفكك. ولكن في 11 مارس 1976، عندما أعلن العميد عزيز الأحدب نفسه حاكماً عسكرياً للبنان، وطلب من رئيس الجمهورية، سليمان فرنجية، الاستقالة، خلال أربع وعشرين ساعة، بغية وضع حدّ للحرب الأهلية، التي كانت تجتاح البلاد، على حدّ قول العميد الأحدب ـ اندلعت الاشتباكات المسلحة من جديد، بعنف لم يسبق له مثيل، وشملت كافة أنحاء البلاد. وأظهر، خلالها، الفلسطينيون والتقدميون اللبنانيون تفوّقاً ملحوظاً. أما خطة الإصلاح، فأكلتها نار الحرب المتأججة.

لم يرضَ السوريون عن تطورات الوضع على الساحة اللبنانية، وراحوا يعززون وجودهم، السياسي والعسكري، لوقف تصاعد المعارك. الأمر الذي وضعهم في موقف متناقض مع "الحركة الوطنية اللبنانية" والمقاومة الفلسطينية. وبدا أن التغييرات البنيوية في لبنان، التي يمكن أن يتسامح فيها السوريون أو يتقبلوها، لا يمكن أن تتجاوز ما حددته "الوثيقة الدستورية".

وكان من الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى نشوب الخلاف بين السوريين ومنظمة "الصاعقة"، من جهة، وسائر منظمات المقاومة الفلسطينية و"الحركة الوطنية اللبنانية"، من جهة أخرى. وخرج الخلاف إلى العلن، بعد فشل الاجتماع، الذي عقد في دمشق، بين الرئيس حافظ الأسد وياسر عرفات وكمال جنبلاط، في 22 مارس 1976، وبعد استنكار الزعيم اللبناني، في 30 مارس 1976، محاصرة السوريين الأسلحة المرسلة إلى "الحركة الوطنية اللبنانية".

8. التدخل العسكري السوري في لبنان (1976)

دخلت مرحلة العمل العربي منعطفاً جديداً، مع منتصف عام 1976، بدخول الجيش السوري لبنان، واحتلاله مَواقع إستراتيجية في زحلة، ونشره الحواجز على طريق المصنع ـ شتوره.

وجاء الغزو السوري للبنان مرتبطاً بظاهرتَين. أولاهما انتصار "الحركة الوطنية" في كل القطاعات في لبنان، حتى أوشكت "الجبهة اللبنانية"، أن تفقد جميع مَواقعها. والظاهرة الثانية هي بداية تقارب بين الرئيس اللبناني، سركيس، وياسر عرفات، كان منتظراً منه أن يصحح العلاقة بين الرئيس الجديد وقوى "الحركة الوطنية اللبنانية"، ومن ثَم يخرج سركيس من دائرة سورية.

صمّم السوريون على اجتياح لبنان، خلال يومين، ولكن المقاومة الشعبية، التي نظمتها قوى "الحركة الوطنية اللبنانية" والمقاومة الفلسطينية، أربكت الجيش العربي السوري وعوقته. وعمد إلى إشغال القوات المشتركة في الجنوب والجبل، لمدة تزيد على الشهر. كما بادر إلى الإسناد، المدفعي والصاروخي، للقوات الانغزالية، في كثير من الأحيان. مما أنعش قوات "الجبهة اللبنانية"، وشجعها على مهاجمة مَواقع القوات المشتركة، في تل الزعتر وجسر الباشا والنبعة.

واللافت أن إبادة مخيمَي تل الزعتر وجسر الباشا، هو دليل على تأصيل سياسة التقسيم، إذ للمرة الأولى، يصبح للمورانة منطقة مغلقة.

ولئن حققت القيادتان، السورية والانعزالية، مكاسب عسكرية، فإنهما عجزتا عن فرض الانسحاب من خلال الضغط العسكري. وبذلك، تكون "القوات المشتركة"، التي خسرت مواقع عسكرية، قد حققت نصراً سياسياً كبيراً.

وانقسمت الدول العربية، إزاء دخول جيش سورية أراضي لبنان، في اتجاهين:

  1. اتجاه مثّلته دولتا ليبيا والجزائر، اللتان سارعتا، في 6 يونيه 1976، إلى إرسال وفد، ضم عبدالسلام جلود، رئيس وزراء ليبيا، ووزير التربية الجزائري، مهمته، بحسب مصادر المقاومة، هي العمل على الانسحاب العاجل للقوات السورية، وإيجاد تسوية للحرب في لبنان، من خلال الأحزاب اللبنانية، تضمنها الجزائر وليبيا وسورية، التي تضمن، كذلك، وجود المقاومة الفلسطينية و"الحركة الوطنية اللبنانية".
  2. اتجاه غالبية الدول العربية إلى عقد اجتماع عربي طارىء. وكان الرأي السائد أن يكون الاجتماع على مستوى وزراء الخارجية. وفعلاً، عقد مجلس الجامعة العربية اجتماعاً طارئاً، في 9 يونيه 1976، في القاهرة، حضره كل الدول العربية. انتهى مجلس الجامعة إلى القرار الرقم 3456، الداعي إلى وقف إطلاق النار، من الفور، وتشكيل قوة أمْن عربية، رمزية، تحت إشراف الأمين العام للجامعة، للحفاظ على الأمن، تحل محل القوات السورية، وتنتهي مهمتها بناء على طلب رئيس جمهورية لبنان المنتخَب. وفي الوقت نفسه، تشكلت لجنة، تمثّل مجلس الجامعة، من وزير خارجية البحرين، رئيس دورة المجلس، والأمين العام للجامعة العربية، ورئيس وفد كلٍّ من الجزائر وليبيا إلى الاجتماع، على أن تتعاون هذه اللجنة مع الأطراف المعنية على متابعة الموقف، والعمل على تأمين الأمن والاستقرار في لبنان. إضافة إلى أن مجلس الجامعة عُدّ في حالة اجتماع دائم.

توجهت اللجنة، بعد انتهاء الاجتماع، إلى دمشق، حيث اجتمعت بالرئيس الأسد، فور وصولها. ثم عادت إلى القاهرة، حيث أعلنت أن الرئيس السوري، وافق على قرار مجلس الجامعة، وطلب إدخال تعديل، يقضي بإشراك قوات لبنانية في القوات العربية. وكان من المنتظر أن تتكون هذه القوة من وحدات من 6 دول، هي: المملكة العربية السعودية، السودان، ليبيا، الجزائر، سورية، جيش التحرير الفلسطيني. ورفضت مصر الاشتراك فيها. ولئن قبِلت سورية قرار المجلس، نتيجة المقاومة العنيفة، التي واجهت قواتها في لبنان، فإنها، في الوقت عينه، تركت الباب مفتوحاً للمناورة؛ إذ أرسل الرئيس اللبناني، سليمان فرنجية، رسالة إلى مجلس الجامعة العربية، في 9 يونيه 1976، يعلن فيها، أن لبنان لم يتلقّ الدعوة لحضور المؤتمر. ثم يقول، في رسالة إلى أمين الجامعة، إن لبنان لم يكلِّف أي شخص ليحل محل وزير خارجيته. ويترتب على ذلك، أن لبنان غير ملزم بقرار لم يوافِق عليه.

وقد واجهت قوة الأمن العربية مشكلة أن "الجبهة اللبنانية"، لا تريد قوات جزائرية، كما أن الجزائر نفسها لم ترِد إرسال قواتها إلى لبنان. وكان المطلوب هو 6 آلاف رجل. ومن الفور، أرسلت ليبيا عدداً من ضباطها؛ ونقلت السعودية كتيبة من لوائها، الذي ما برح في سورية منذ الحرب العربية ـ الإسرائيلية؛ وشارك السودان بكتيبة، كذلك. وقد دارت في المجلس مناقشة طويلة، حول مشاركة سورية، الموجودة، بالفعل، في لبنان. وكان الرأي الغالب هو اشتراكها، لتكون تحت سيطرة عربية، يمكِن أن تكبح طموحها الجامح.

اتّسمت مهمة هذه القوات بالصعوبة، نظراً إلى إمكاناتها المحدودة، وسرعة إرسالها، من دون تخطيط سابق، وافتقادها مقومات القيادة، خاصة في مجالَي التنسيق والمعلومات. لكل ذلك، لم يكن نجاحها ممكناً، خاصة أن مهمتها، كانت حفظ الأمن والسلام. بل إن الذين فكروا في القرار بهذا الشكل، كانوا يدركون عدم جدية دور هذه القوات، في مواجَهة حرب حقيقية، استخدم فيها أحدث الأسلحة.

أبلغ الرئيس الأسد الرئيس فرنجية، أنه موافق على دخول القوات لبنان. كما أنه قد استدعى قائدَي "الصاعقة" و"البعث" من بيروت، لإبلاغهما القبول السوري. وأبلغت سورية أمين عام الجامعة العربية موافقتها على سحب قواتها، بشروط.

  1. أولها أن تحل القوات العربية محلها، في بيروت وطرابلس وصيدا والجبل.
  2. ثانيها أن يحظى دخول القوات بموافقة سلطات لبنان الشرعية.
  3. ثالثها ألاّ يشمل الانسحاب منطقتَي عكار والبقاع، إلاّ بعد أن يتوصل فرقاء الحرب إلى اتفاق نهائي، يتضمن الإفراج عن بعض عناصر "البعث" و"الصاعقة" وإعادة فتح مكاتبهما.

وأعلن الرئيس السوري، خلال زيارته باريس، في 17 يونيه 1976، بعد اجتماعه إلى الملك خالد، أن القوات العربية، سوف تدخل لبنان. وفعلاً، دخلت وحدات ليبية وسعودية، في 21 يونيه، مطار بيروت، بينما كانت الحرب تدور حول تل الزعتر.

وتمكنت المملكة العربية السعودية، في 23 يونيه 1976، من جمع رئيسَي وزراء مصر وسورية، في حضور رئيس وزراء الكويت، في الرياض. وانتهى الاجتماع إلى تشكيل لجنة من وزيرَي خارجية مصر وسورية، مهمتها التمهيد لمؤتمر قمة بين البلدين، ووقْف الحملات الإعلامية بينهما. كما تقرر دعم قرارات مجلس الجامعة العربية، ومناشدة جميع الأطراف تسهيل مهمة قوة الأمن العربية. ولكن القتال تواصل بين القوات السورية و"القوات المشتركة"، وبين قوات "الجبهة اللبنانية"، ومخيم تل الزعتر. وتعرضت قوات الأمن العربية، بإمكاناتها الهزيلة لغير هجوم، ولعمليات قنص واعتداءات، حتى بعد استلام الرئيس سركيس مقاليد الحكم، في 23 سبتمبر 1976، وهو ما جعل أمين عام الجامعة العربية يقرر، في 10 أكتوبر 1976، سحب القوات من لبنان، لاستحالة اضطلاعها بمهمتها. ولكن القرار لم ينفذ، انتظاراً لِما سيسفر عنه مؤتمر قمة الرياض.

وإثر معركة بحمدون، التي عجزت فيها القوات السورية عن اختراق قوات المقاومة، لمدة 3 أيام، رغبت الحكومة السورية في عقد اتفاق مع المقاومة؛ إذ إن الإصرار على استمرار القتال، يعرض سورية نفسها للخطر. وبمساعدة الوساطة الليبية، اتُّفق، في 29 يوليه، على وقف إطلاق النار، وتشكيل لجنة لبنانية ـ سورية ـ فلسطينية، برئاسة ممثل للجامعة العربية، تُشرف على وقف إطلاق النار. وينص البند الثالث من الاتفاق على أن سورية ومنظمة التحرير، تشجعان كافة الأطراف اللبنانيين على إجراء حوار وطني، برعاية الرئيس سركيس، وتكون الوثيقة، التي أُذيعت في 14 فبراير، أساساً له. كما ينص البند الرابع على أنه انطلاقاً من حق لبنان في ألاّ يتدخل الجانب الفلسطيني في شؤونه الداخلية، فإن من حق المقاومة ممارسة كفاحها من ساحة لبنان، وفق الاتفاقات المعقودة. وقد وقع هذا الاتفاق كلٌّ من عبدالحليم خدام، عن سورية، وفاروق القدومي، عن منظمة التحرير الفلسطينية. وكان هدف سورية، هو قطع الطريق على أي عمل عربي آخر.

وسعى أطراف لبنانيون في اتجاه آخر، بعد أن ظهر واضحاً، أن كلاًّ منهم أخذ يخسر قواعده الجماهيرية، أمام فداحة الخسائر في الأرواح والأموال. فاتُّفق على وقف إطلاق النار، بين المقاومة و"الكتائب" و"الحركة الوطنية". وتولت "الكتائب" الحصول على موافقة بقية قيادات "الجبهة اللبنانية"، ليكون الاتفاق الرقم 53. وكان هناك اتجاه ثالث، هو ضرورة عقد مؤتمر قمة عربية. ولكن الخلافات بين مصر وسورية، حالت دونه. فضلاً عن اتجاه رابع هو عقد مؤتمر قمة مصغّرة، وذلك أمام إصرار مصر على موقفها، إذ اقترحت سورية أن يكون المؤتمر سباعياً، يضم الأردن إلى الدول الخمس، وهي مصر وسورية والمملكة العربية السعودية والكويت ولبنان، إلى جانب منظمة التحرير الفلسطينية، مستهدفة تغيير قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. وكانت ترشح رجُلها، زهير محسن، بديلاً من ياسر عرفات. وهو موقف يتفق ورأي الملك حسين. وحسمت المملكة العربية السعودية الأمر، بالدعوة إلى مؤتمر قمة سداسي، في الرياض، في 16 أكتوبر 1976.

وكان سبق الدعوة السعودية اتصالات مكثفة، أجراها الأمير فهد، مع دمشق والقاهرة وبيروت، إلى جانب اتصالات مماثلة، أجرتها الكويت. ولم تكن مشكلة المؤتمر الأولى هي الحرب الأهلية في لبنان. وإنما الخلاف بين مصر وسورية، إذ وقفت مصر مع المقاومة، بينما سورية تحاربها. وناقش المؤتمرون إيقاف الهجوم الإعلامي السوري على النظام في مصر، لتوقيعه اتفاق سيناء. وفي المقابل، توافق مصر على حق دمشق في "السيطرة" على لبنان.

وكان من أهم إنجازات المؤتمر قراره تحويل قوات الأمن العربية إلى قوات ردع عربية، تتألف من 30 ألف مقاتل، وعمادها القوات السورية في لبنان (21 ألف جندي)، إلى جانب الكتيبتَين، السعودية والسودانية. وترك الاشتراك فيها مفتوحاً، أمام الدول العربية. ولعل أهم ما طرأ على القوات العربية، هو انتقال قيادتها من الجامعة العربية إلى الرئيس اللبناني، سركيس، بناء على طلب سورية. وسلمت قيادتها لضابط لبناني، كان يعيش في سورية، منذ أعوام، عاملاً في استخباراتها. وقدرت نفقات هذه القوات بمبلغ 90 ألف دولار، تعهدت المملكة العربية السعودية والكويت بدفع معظَمها. وقرر مؤتمر الرياض إنهاء القتال في لبنان، وعودته إلى ما كان عليه قبل أبريل 1975. وحدد لذلك موعداً، في السادسة من صباح 21 أكتوبر.

وعقد وزراء الخارجية العرب مؤتمراً في القاهرة، في 20 أكتوبر 1976، للإعداد لمؤتمر قمة عربية، عقد في 25 أكتوبر، وقرر التصديق على قرارات مؤتمر الرياض. ووافق المؤتمر على تشكيل لجنة من ممثلي المملكة العربية السعودية والكويت ومصر وسورية، مهمتها التنسيق مع الرئيس اللبناني، لتنفيذ اتفاق القاهرة، بين المقاومة ولبنان. واقترح ياسر عرفات ضم ممثل للجامعة العربية إلى اللجنة، ولكن الرئيس السوري رأى أن اللجنة نفسها، تمثّل الجامعة العربية، لأن دولها أعضاء فيها؛ فلا داعي أن يضاف ممثل للجامعة. غير أن ياسرعرفات، طلب تسجيل اقتراحه في محضر الجلسة، ليكون وثيقة في شأن الاتجاه، الذي وضع في الرياض، وتأصل في القاهرة، نحو استبعاد الجامعة العربية من أحداث لبنان. وهو موقف سورية، طوال الأحداث، إلى درجة أن كامل الأسعد، رئيس مجلس النواب اللبناني، اقترح أن تعلن الجامعة العربية عجزها عن حل مشكلة لبنان، وتتركها للأقدر على تحمّلها.

وقرر المؤتمر إنشاء صندوق للإنفاق على متطلبات قوات الردع، تسهم الدول فيه بنسب مئوية، كلٌّ حسب طاقتها. ويشرف عليه رئيس جمهورية لبنان. واتُّفق على أن يسهم كلٌّ من المملكة العربية السعودية والكويت بـ 20 % من ميزانية الصندوق، ودولة الإمارات 15 %، وقطَر 10 %، أي أن العرب سينفقون على القوات السورية، البالغة نسبتها 90 % من قوات الردع في لبنان. وحاول ياسر عرفات إقناع مصر والكويت بالاشتراك في قوات الردع، ضماناً للفلسطينيين و"الحركة الوطنية". ولكن مصر رفضت، بإصرار، متذرعة بأن قواتها، لا تخرج من بلادها، إلا من أجل تحرير الأرض. فكانت سورية الرابح الوحيد في المؤتمر؛ إذ لم يقرر انسحابها من لبنان، بل أعطي وجودها فيه شرعية عربية. ناهيك أنه لم يحدد نسبة إسهامها في قوات الردع، بل تولى الإنفاق عليها، كذلك.

وآتت الرياح سفن سورية، عند تشكيل قوات الردع، إذ رفض الاشتراك فيها، إلى جانب مصر والكويت، دول المغرب العربي وقطَر واليمن الجنوبي. واستبعدت ليبيا والجزائر والعراق والأردن، بسبب التحفظات من مشاركتها. وهكذا، اقتصرت قوات الردع على سورية والمملكة العربية السعودية والسودان واليمن الشمالي والإمارات. وقوامها 30 ألف جندي، منهم 22 ألف جندي سوري.

9. نتائج التدخل السوري

لاحت بواكير التدخل السوري المباشر في لبنان، في أوائل شهر أبريل عام 1976. وأعلن الرئيس الأسد، في الثاني عشر من الشهر نفسه، في خطاب ألقاه في دمشق، أن "سورية مستعدة للتحرك في اتجاه لبنان، لتدافع عن جميع المظلومين".

وفي 14 أبريل 1976، أعلن هنري كيسنجر، "أن التدخل العسكري السوري، يقترب من الحدود، التي لا يمكِن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، أن تتسامحا فيها".

وفي الثالث من مايو 1976، أعلن بيار الجميل، رئيس حزب الكتائب، أنه لا يمكن إنقاذ لبنان إلاّ بوساطة جيوش عربية، أو دولية.

وفي 19 مايو 1976، أعلن في واشنطن، دين براون، المبعوث الأمريكي إلى لبنان وسورية، أن التدخل السوري في لبنان ضروري، وقادر على المساهمة في إعادة الأمن إلى البلد.

       وعلى الرغم من المساعي الحميدة، التي اضطلع بها، في بيروت، النائب الفرنسي، جورج جورس، ما بين الثامن والخامس عشر من أبريل 1976، وكذلك تعديل المادة 73 من الدستور اللبناني، في العاشر من أبريل، ليصبح في الإمكان انتخاب رئيس الجمهورية، خلال الستة أشهر السابقة على انتهاء ولاية الرئيس فرنجية، في 23 سبتمبر 1976، وانتخاب السيد إلياس سركيس رئيساً جديداً للجمهورية اللبنانية، في 8 مايو 1976 ـ على الرغم من ذلك، واصلت القوات السورية تقدُّمها في الأراضي اللبنانية. وفي الوقت نفسه كانت تدور أعنف المعارك بين "القوات المشتركة"، الفلسطينية والتقدمية اللبنانية، من جهة، والقوات المسيحية المحافظة والقوات السورية، من جهة أخرى. وخلال وجود أليكسي كوسيجين Alexei Kosygin، رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي، في دمشق، ما بين 29 مايو و4 يونيه 1976، بادر السوريون، في الأول من يونيه، إلى أكبر عملية اقتحام للأراضي اللبنانية. وأشار البيان المشترك، الصادر في نهاية زيارة كوسيجين، إلى الطابع المؤقت للتدخل السوري في لبنان، وأعلن معارضته لفكرة تقسيم لبنان. أمّا وكالة "تاسTASS" السوفيتية، فأعلنت، في السادس من يونيه 1976، "أن سورية تؤدي واجبها تجاه شعب شقيق".

وعلى الرغم من قرار جامعة الدول العربية، في 10 يونيه 1976، إرسال "قوة سلام عربية" إلى لبنان، وعلى الرغم من جهود عبدالسلام جلود، رئيس وزراء ليبيا ـ أمعن السوريون في اجتياحهم، فاستولوا، في 30 يونيه 1976، على  مخيم جسر الباشا الفلسطيني. وسقطت منطقة "النبعة"، شمالي بيروت، ومخيم تل الزعتر، الذي يحتضن 30 ألف نسمة، أكثرهم من الفلسطينيين، ونحو ربعهم من المسلمين الشيعة الجنوبيين. وسط هذه الأجواء، اقترح الرئيس المصري، أنور السادات، أن يجتمع، في الرياض، رؤساء دول لبنان والمملكة العربية السعودية والكويت ومصر وسورية، إضافة إلى رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، من أجل وضع حد للحرب الأهلية اللبنانية. فكان مؤتمر الرياض، الذي أسفر عن قرار بوقف إطلاق النار، وتشكيل قوة ردع عربية. وزكىّ قراره مؤتمر القمة العربية، في القاهرة.

حددت مهمة قوات الردع العربية بالسهر على احترام وقف إطلاق النار، والتأكد من انسحاب المتنازعين إلى المواقع التي كانوا يحتلونها، قبل 13 أبريل 1975. فبادرت إلى تحديد مناطق عازلة، في نقاط التوتر، وأنشأت مراكز للمراقبة والإشراف، تشرف منها على انسحاب العناصر المسلحة، وتصادر الأسلحة الثقيلة، التي يملكها المتنازعون، وفقاً لجدول زمني محدد، مدته خمسة أيام، في جبل لبنان؛ وخمسة أيام، في الجنوب؛ وسبعة أيام، في بيروت وضواحيها؛ وعشرة أيام، في الشمال. تؤمن قوات الردع، كذلك، فتح الطرقات الدولية أمام المواصلات، وتنشر مراكز للمراقبة، وتسيِّر الدوريات على طول الطرقات غير الآمنة. على أن يوقَّع اتفاق، في هذا الخصوص، بين جميع الفئات المعنية وقيادات قوات الردع العربية. كما تسهر هذه الأخيرة على تطبيق اتفاق القاهرة تطبيقياً دقيقاً. وهكذا، حلت قوات الردع العربية محل الجيش اللبناني، ريثما يعاد بناؤه.

وشملت منطقة عمليات قوات الردع العربية، ثلاثة قطاعات:

  1. المناطق الواقعة تحت النفوذ الفلسطيني ـ اللبناني التقدمي، عدا الجنوب.
  2. المناطق الواقعة تحت نفوذ اليمين المسيحي، حيث كان وجود قوات الردع رمزياً، وذلك بسبب تحفظات الزعماء المسيحيين المحافظين، بحجة أن مهمة قوات الردع العربية، القاضية بإعادة النظام والأمن، يجب أن تنفذ ضد الذين تعرضوا للنظام والأمن، وفي مناطقهم، وحدها. ومن المظاهر ذات الدلالة، أنه عندما كانت القوات السورية، التابعة لقوات الردع العربية، تنتشر في بيروت، كانت الأحياء المسيحية في المدينة، تشهد إضراباً عاماً، احتجاجاً على هذا الانتشار. في حين كانت المنطقة الوطنية في بيروت (بيروت الغربية) تستقبلها بشيء من الرضى.
  3. منطقة الحدود الجنوبية، "حيث امتنعت قوات دمشق عن عبور نهر الليطاني. وكان الإسرائيليون، يرون، على الصعيد العسكري، أن من إيجابيات تدخّل السوريين في لبنان، إبعاد خطر التصادم في مرتفعات الجولان"، شرط ألاّ يقتربوا كثيراً من حدودهم. هذا مع العلم أن إسحاق رابين، رئيس وزراء إسرائيل، في حينه، أعلن، في 14 أبريل 1976، عندما كان التدخل السوري لا يزال في بدايته، أن "حكومته وضعت خطاً أحمر، إذا تجاوزته القوات السورية، استدعى ذلك عملاً إسرائيلياً".