الفتاوى

مجموع فتاوى ابن تيمية

تقي الدين ابن تيمية

مجمع الملك فهد

سنة النشر: 1416هـ/1995م
رقم الطبعة: ---
عدد الأجزاء: سبعة وثلاثون جزءا

الكتب » مجموع فتاوى ابن تيمية » الفقه » باب حكم المرتد » مسألة النصيرية القائلون باستحلال الخمر وتناسخ الأرواح وقدم العالم

مسألة: الجزء الخامس والثلاثون
[ ص: 145 ] وسئل رحمه الله تعالى ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين وأعانهم على إظهار الحق المبين وإخماد شعب المبطلين : في " النصيرية " القائلين باستحلال الخمر وتناسخ الأرواح وقدم العالم وإنكار البعث والنشور والجنة والنار في غير الحياة الدنيا وبأن " الصلوات الخمس " عبارة عن خمسة أسماء وهي : علي وحسن وحسين ومحسن وفاطمة . فذكر هذه الأسماء الخمسة على رأيهم يجزئهم عن الغسل من الجنابة والوضوء وبقية شروط الصلوات الخمسة وواجباتها . وبأن " الصيام " عندهم عبارة عن اسم ثلاثين رجلا واسم ثلاثين امرأة يعدونهم في كتبهم ويضيق هذا الموضع عن إبرازهم ; وبأن إلههم الذي خلق السموات والأرض هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهو عندهم الإله في السماء والإمام في الأرض فكانت الحكمة في ظهور اللاهوت بهذا الناسوت على رأيهم أن يؤنس خلقه وعبيده ; ليعلمهم كيف يعرفونه ويعبدونه . وبأن النصيري عندهم لا يصير نصيريا مؤمنا يجالسونه ويشربون معه الخمر ويطلعونه على أسرارهم ويزوجونه من نسائهم : حتى يخاطبه معلمه . وحقيقة الخطاب عندهم أن يحلفوه على كتمان دينه ومعرفة مشايخه [ ص: 146 ] وأكابر أهل مذهبه ; وعلى ألا ينصح مسلما ولا غيره إلا من كان من أهل دينه وعلى أن يعرف ربه وإمامه بظهوره في أنواره وأدواره فيعرف انتقال الاسم والمعنى في كل حين وزمان .

فالاسم عندهم في أول الناس آدم والمعنى هو شيث والاسم يعقوب والمعنى هو يوسف . ويستدلون على هذه الصورة كما يزعمون بما في القرآن العظيم حكاية عن يعقوب ويوسف - عليهما الصلاة والسلام - فيقولون : أما يعقوب فإنه كان الاسم فما قدر أن يتعدى منزلته فقال : { سوف أستغفر لكم ربي } وأما يوسف فكان المعنى المطلوب فقال : { لا تثريب عليكم اليوم } فلم يعلق الأمر بغيره ; لأنه علم أنه الإله المتصرف ويجعلون موسى هو الاسم ويوشع هو المعنى ويقولون : يوشع ردت له الشمس لما أمرها فأطاعت أمره ; وهل ترد الشمس إلا لربها ويجعلون سليمان هو الاسم وآصف هو المعنى القادر المقتدر . ويقولون : سليمان عجز عن إحضار عرش بلقيس وقدر عليه آصف لأن سليمان كان الصورة وآصف كان المعنى القادر المقتدر وقد قال قائلهم :

هابيل شيث يوسف يوشع آصف شمعون الصفا حيدر

ويعدون الأنبياء والمرسلين واحدا واحدا على هذا النمط إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون : محمد هو الاسم وعلي هو المعنى ويوصلون العدد على هذا الترتيب في كل زمان إلى وقتنا هذا .

فمن حقيقة الخطاب في الدين عندهم أن عليا هو الرب وأن محمدا هو الحجاب وأن [ ص: 147 ] سلمان هو الباب وأنشد بعض أكابر رؤسائهم وفضلائهم لنفسه في شهور سنة سبعمائة فقال :

أشهد أن لا إله إلا     حيدرة الأنزع البطين
ولا حجاب عليه إلا     محمد الصادق الأمين
ولا طريق إليه إلا     سلمان ذو القوة المتين

ويقولون إن ذلك على هذا الترتيب لم يزل ولا يزال وكذلك الخمسة الأيتام والاثنا عشر نقيبا وأسماؤهم مشهورة عندهم ومعلومة من كتبهم الخبيثة وأنهم لا يزالون يظهرون مع الرب والحجاب والباب في كل كور ودور أبدا سرمدا على الدوام والاستمرار ويقولون : إن إبليس الأبالسة هو عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ويليه في رتبة الإبليسية أبو بكر رضي الله عنه ثم عثمان - رضي الله عنهم أجمعين وشرفهم وأعلى رتبهم عن أقوال الملحدين وانتحال أنواع الضالين والمفسدين - فلا يزالون موجودين في كل وقت دائما حسبما ذكر من الترتيب .

ولمذاهبهم الفاسدة شعب وتفاصيل ترجع إلى هذه الأصول المذكورة . وهذه الطائفة الملعونة استولت على جانب كبير من بلاد الشام ( وهم معروفون مشهورون متظاهرون بهذا المذهب وقد حقق أحوالهم كل من خالطهم وعرفهم من عقلاء المسلمين وعلمائهم ومن عامة الناس أيضا في [ ص: 148 ] هذا الزمان ; لأن أحوالهم كانت مستورة عن أكثر الناس وقت استيلاء الإفرنج المخذولين على البلاد الساحلية ; فلما جاءت أيام الإسلام انكشف حالهم وظهر ضلالهم . والابتلاء بهم كثير جدا .

فهل يجوز لمسلم أن يزوجهم أو يتزوج منهم ؟ وهل يحل أكل ذبائحهم والحالة هذه أم لا ؟ وما حكم الجبن المعمول من إنفحة ذبيحتهم ؟ وما حكم أوانيهم وملابسهم ؟ وهل يجوز دفنهم بين المسلمين أم لا ؟ وهل يجوز استخدامهم في ثغور المسلمين وتسليمها إليهم ؟ أم يجب على ولي الأمر قطعهم واستخدام غيرهم من رجال المسلمين الكفاة وهل يأثم إذا أخر طردهم ؟ أم يجوز له التمهل مع أن في عزمه ذلك ؟ وإذا استخدمهم وأقطعهم أو لم يقطعهم هل يجوز له صرف أموال بيت المال عليهم وإذا صرفها وتأخر لبعضهم بقية من معلومه المسمى ; فأخره ولي الأمر عنه وصرفه على غيره من المسلمين أو المستحقين أو أرصده لذلك هل يجوز له فعل هذه الصور ؟ أم يجب عليه ؟ وهل دماء النصيرية المذكورين مباحة وأموالهم حلال أم لا ؟ وإذا جاهدهم ولي الأمر أيده الله تعالى بإخماد باطلهم وقطعهم من حصون المسلمين وحذر أهل الإسلام من مناكحتهم وأكل ذبائحهم وألزمهم بالصوم والصلاة ومنعهم من إظهار دينهم الباطل وهم الذين يلونه من الكفار : هل ذلك أفضل وأكثر أجرا من التصدي والترصد لقتال التتار في بلادهم وهدم بلاد [ ص: 149 ] سيس وديار الإفرنج على أهلها ؟ أم هذا أفضل من كونه يجاهد النصيرية المذكورين مرابطا ؟ ويكون أجر من رابط في الثغور على ساحل البحر خشية قصد الفرنج أكبر أم هذا أكبر أجرا ؟ وهل يجب على من عرف المذكورين ومذاهبهم أن يشهر أمرهم ويساعد على إبطال باطلهم وإظهار الإسلام بينهم فلعل الله تعالى أن يهدي بعضهم إلى الإسلام وأن يجعل من ذريتهم وأولادهم مسلمين بعد خروجهم من ذلك الكفر العظيم أم يجوز التغافل عنهم والإهمال ؟ وما قدر المجتهد على ذلك والمجاهد فيه والمرابط له والملازم عليه ؟ ولتبسطوا القول في ذلك مثابين مأجورين إن شاء الله تعالى إنه على كل شيء قدير ; وحسبنا الله ونعم الوكيل .

الحاشية رقم: 1
فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية : الحمد لله رب العالمين . هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى ; بل وأكفر من كثير من المشركين وضررهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والفرنج وغيرهم ; فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع وموالاة أهل البيت وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا بكتابه ولا بأمر ولا نهي ولا ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ولا بأحد من المرسلين قبل محمد صلى الله عليه وسلم ولا بملة من الملل السالفة بل يأخذون كلام الله ورسوله المعروف عند علماء المسلمين يتأولونه على أمور [ ص: 150 ] يفترونها ; يدعون أنها علم الباطن ; من جنس ما ذكره السائل ومن غير هذا الجنس ; فإنه ليس لهم حد محدود فيما يدعونه من الإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته وتحريف كلام الله تعالى ورسوله عن مواضعه ; إذ مقصودهم إنكار الإيمان وشرائع الإسلام بكل طريق مع التظاهر بأن لهذه الأمور حقائق يعرفونها من جنس ما ذكر السائل ومن جنس قولهم : إن " الصلوات الخمس " معرفة أسرارهم و " الصيام المفروض " كتمان أسرارهم " وحج البيت العتيق " زيارة شيوخهم وأن ( يدا أبي لهب هما أبو بكر وعمر وأن ( النبأ العظيم والإمام المبين هو علي بن أبي طالب ; ولهم في معاداة الإسلام وأهله وقائع مشهورة وكتب مصنفة فإذا كانت لهم مكنة سفكوا دماء المسلمين ; كما قتلوا مرة الحجاج وألقوهم في بئر زمزم وأخذوا مرة الحجر الأسود وبقي عندهم مدة وقتلوا من علماء المسلمين ومشايخهم ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى وصنفوا كتبا كثيرة مما ذكره السائل وغيره وصنف علماء المسلمين كتبا في كشف أسرارهم وهتك أستارهم ; وبينوا فيها ما هم عليه من الكفر والزندقة والإلحاد الذي هم به أكفر من اليهود والنصارى ومن براهمة الهند الذين يعبدون الأصنام .

وما ذكره السائل في وصفهم قليل من الكثير الذي يعرفه العلماء في وصفهم . ومن المعلوم عندنا أن السواحل الشامية إنما استولى عليها النصارى من جهتهم وهم دائما مع كل عدو للمسلمين ; فهم مع النصارى على المسلمين . ومن [ ص: 151 ] أعظم المصائب عندهم فتح المسلمين للسواحل وانقهار النصارى ; بل ومن أعظم المصائب عندهم انتصار المسلمين على التتار .

ومن أعظم أعيادهم إذا استولى - والعياذ بالله تعالى - النصارى على ثغور المسلمين فإن ثغور المسلمين ما زالت بأيدي المسلمين حتى جزيرة قبرص يسر الله فتحها عن قريب وفتحها المسلمون في خلافة أمير المؤمنين " عثمان بن عفان " رضي الله عنه فتحها " معاوية بن أبي سفيان " إلى أثناء المائة الرابعة .

فهؤلاء المحادون لله ورسوله كثروا حينئذ بالسواحل وغيرها فاستولى النصارى على الساحل ; ثم بسببهم استولوا على القدس الشريف وغيره ; فإن أحوالهم كانت من أعظم الأسباب في ذلك ; ثم لما أقام الله ملوك المسلمين المجاهدين في سبيل الله تعالى " كنور الدين الشهيد وصلاح الدين " وأتباعهما وفتحوا السواحل من النصارى وممن كان بها منهم وفتحوا أيضا أرض مصر ; فإنهم كانوا مستولين عليها نحو مائتي سنة واتفقوا هم والنصارى فجاهدهم المسلمون حتى فتحوا البلاد ومن ذلك التاريخ انتشرت دعوة الإسلام بالديار المصرية والشامية .

ثم إن التتار ما دخلوا بلاد الإسلام وقتلوا خليفة بغداد وغيره من ملوك المسلمين إلا بمعاونتهم ومؤازرتهم ; فإن منجم هولاكو الذي كان وزيرهم وهو " النصير [ ص: 152 ] الطوسي " كان وزيرا لهم بالألموت وهو الذي أمر بقتل الخليفة وبولاية هؤلاء . ولهم " ألقاب " معروفة عند المسلمين تارة يسمون " الملاحدة " وتارة يسمون " القرامطة " وتارة يسمون " الباطنية " وتارة يسمون " الإسماعيلية " و تارة يسمون " النصيرية " وتارة يسمون " الخرمية " وتارة يسمون " المحمرة " وهذه الأسماء منها ما يعمهم ومنها ما يخص بعض أصنافهم كما أن الإسلام والإيمان يعم المسلمين ولبعضهم اسم يخصه : إما لنسب وإما لمذهب وإما لبلد وإما لغير ذلك .

وشرح مقاصدهم يطول وهم كما قال العلماء فيهم : ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض . وحقيقة أمرهم أنهم لا يؤمنون بنبي من من الأنبياء والمرسلين ; لا بنوح ولا إبراهيم ولا موسى ولا عيسى ولا محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ولا بشيء من كتب الله المنزلة ; لا التوراة ولا الإنجيل ولا القرآن . ولا يقرون بأن للعالم خالقا خلقه ; ولا بأن له دينا أمر به ولا أن له دارا يجزي الناس فيها على أعمالهم غير هذه الدار .

[ ص: 153 ] وهم تارة يبنون قولهم على مذاهب الفلاسفة الطبيعيين أو الإلهيين وتارة يبنونه على قول المجوس الذين يعبدون النور ويضمون إلى ذلك الرفض .

ويحتجون لذلك من كلام النبوات : إما بقول مكذوب ينقلونه كما ينقلون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أول ما خلق الله العقل } والحديث موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث ; ولفظه " { إن الله لما خلق العقل فقال له : أقبل فأقبل .

فقال له : أدبر فأدبر
} فيحرفون لفظه فيقولون " { أول ما خلق الله العقل } ليوافقوا قول المتفلسفة أتباع أرسطو في أن أول الصادرات عن واجب الوجود هو العقل . وإما بلفظ ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيحرفونه عن مواضعه كما يصنع أصحاب " رسائل إخوان الصفا " ونحوهم فإنهم من أئمتهم .

وقد دخل كثير من باطلهم على كثير من المسلمين وراج عليهم حتى صار ذلك في كتب طوائف من المنتسبين إلى العلم والدين ; وإن كانوا لا يوافقونهم على أصل كفرهم ; فإن هؤلاء لهم في إظهار دعوتهم الملعونة التي يسمونها " الدعوة الهادية " درجات متعددة ويسمون النهاية " البلاغ الأكبر والناموس الأعظم " ومضمون البلاغ الأكبر جحد الخالق تعالى ; والاستهزاء به وبمن يقر به حتى قد يكتب أحدهم اسم الله في أسفل رجله وفيه أيضا جحد شرائعه ودينه وما جاء به الأنبياء ودعوى أنهم كانوا من جنسهم طالبين للرئاسة فمنهم من أحسن في طلبها ومنهم من أساء في [ ص: 154 ] طلبها حتى قتل ويجعلون محمدا وموسى من القسم الأول ويجعلون المسيح من القسم الثاني .

وفيه من الاستهزاء بالصلاة والزكاة والصوم والحج ومن تحليل نكاح ذوات المحارم وسائر الفواحش : ما يطول وصفه . ولهم إشارات ومخاطبات يعرف بها بعضهم بعضا . وهم إذا كانوا في بلاد المسلمين التي يكثر فيها أهل الإيمان فقد يخفون على من لا يعرفهم وأما إذا كثروا فإنه يعرفهم عامة الناس فضلا عن خاصتهم .


الحـــواشي 1  2  3  4  5  
السابق

|

| من 1

1998-2015 ©Islamweb.net جميع حقوق النشر محفوظة