نقد سينمائي

العدوى السينماتونيّة في مهرجان الخليج السينمائي


صلاح سرميني ـ دبي

في الدورة الرابعة لمهرجان الخليج السينمائيّ في دبي (14 - 20 أبريل 2011)، غمرتنا السعادة بإستقبال الفرنسيّ "جيرار كوران" بمُناسبة تنظيم تظاهرة سينمائية إستعادية لمجموعةٍ كبيرة من أعماله الفيلميّة، عُرضت وقتذاك عن طريق 11 شاشة فيديو توزّعت في الفضاءات التي تفصل بين صالات العرض في "فيستفال سيتي"، ومركز المهرجان، حيث الإدارة، ولقاءات الضيوف.
بدوره، يفتخر "كوران" اليوم، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، بذلك الاحتفاء الاستثنائيّ الذي لم يحصل عليه في أيّ مكانٍ أخر من العالم، خاصةً بعد مُتابعته أيضاً للدورة الثامنة لمهرجان دبي السينمائي (9 - 16 ديسمبر 2011 .
مزهوّاً دائماً بالحصيلة التي جمعها في المهرجانيّن الشقيقيّن، عددٌ كبيرٌ من بورتريهات شخصياتٍ سينمائية خليجية، عربية، وأجنبية، وفيها الكثير من فريق العمل، بالإضافة إلى مجموعة أفلامٍ حققها في إطار سلاسله المُتنوعة (والتي يستغرق عرضها 24 ساعة إلاّ بعض الدقائق):
ـ 134 سينماتون (70 في مهرجان الخليج، 64 في مهرجان دبي).
ـ 3 بورتريهات ثنائية.
ـ 2 بورتريهات جماعية.
ـ 2 من نافذة غرفة فندق.
ـ 1 سينما.
ـ 10 ملاحظات فيلميّة (3 في مهرجان الخليج، 7 في مهرجان دبي).
ـ بورتريه خارج السلسلة بعنوان " السيد فيرنر هيرتزوغ، لا، هذا ليس سينماتون حقيقيّ لك".
في المرتيّن السابقتيّن، تحوّل الكثير من ضيوف مهرجان الخليج، ودبي إلى ممثلين في البورتريهات  الفردية (Cinématon)، الثنائية (Couple)، الجماعية (Portrait de groupe)، والمُلاحظات الفيلمية (Carnets filmés)، وبينما إعتذر البعض عن الوقوف أمام كاميرا "كوران" خجلاً، غروراً، أو سوء فهمٍ، تسابق آخرون كي يتذوقوا قطعةً من هذه التجربة، وأصابتهم "العدوى السينماتونيّة"، فوقفوا في الطابور ينتظرون دورهم، ودفع الفضول هؤلاء، وغيرهم، إلى تصفح، ومن ثمّ قراءة كتاب توثيقيٍّ بعنوان :
ـ "جيرار كوران، هل هذه سينما حقاً ؟".


                                                                    وجوه من المهرجان

كان سؤالاً مُستفزاً، يعرف من كتبه الإجابة عنه مُسبقاً.
تحمّس البعض كثيراً، ونشروا في صفحاتهم الفيس بوكيّة أخباراً، وصوراً تفاخروا من خلالها، بأنهم شاركوا مع آلافٍ الشخصيات السينمائية في بطولة "أطول فيلم في تاريخ السينما".
اليوم، يمتلك مهرجانيّ الخليج، ودبي أرشيفاً بصرياً لا يشبه أيّ واحدٍ آخر، صوّره سينمائيٌّ أقلّ ما يُقال عنه، بأنه "الأكثر كسلاً في العالم"، ومع ذلك، فهو "الأكثر غزارةً في إنتاجاته الفيلميّة".
بورتريهات "جيرار كوران"، وأفلامه ليست تقريرية، إخبارية، أو حتى توثيقية بالمعنى المُتعارف عليه، إنها، بالأحرى، تُنشئ علاقةً حميمةً مع الأشخاص، والأمكنة، تلتقطها عين/كاميرا "كوران" ببساطةٍ، وشغف، وفي صومعته السينمائية الصغيرة (بيته في مدينة مونترويّ المُحاذية لباريس)، يُضفي عليها بمونتاج بسيط بعض التأمل، والشعرية، وجرعاتٍ مضبوطة من الجاذبية، تُحوّل مشاهدة أعماله إلى حالةٍ من الإدمان.
هي المرة الأولى ـ كما يفتخر ـ التي يُحقق فيها "جيرار كوران" هذا الكمّ الفيلميّ في مدينةٍ واحدة (بعد باريس مدينة إقامته، وكان)، وبدوري، أزعم أيضاً، بأنها المرة الأولى، والأخيرة التي سوف يجتمع من جديد عدد كبير من الشخصيات المُؤفلمه، بمناسبة الدورة الخامسة لمهرجان الخليج السينمائي (10 - 16 أبريل 2012) كي يتفرجوا على أنفسهم، وأتوقع، بأن نضحك من مواقف مُتناقضة، أو مُتشابهة، وفي عتمة الصالة، سوف تمتزج الإبتسامات الخجولة مع القهقهات الهستيرية، الإحساس بالخيبة مع نشوة الإعجاب، الشعور بالملل مع أوجاع الترّقب،...
ومن الطبيعيّ بأن تتأسّس حالةً تلقائيةً من المُقارنة بين بورتريه، وآخر، وتُظهر قواسم مشتركة : سلوكية، نفسية، وجسدية،..
سوف يثير بعض الأشخاص إنتباهنا، ورُبما تصدر منا علامات الضجر من بورتريه آخر، ردود أفعالنا، هي بالتحديد، جوهر العلاقة بين الشخصية المُؤفلمة، والمتفرج.
الأكثر إثارة، طرافةً، وسحراً، بأننا سوف نشاهد أنفسنا بدون ألوان، بالأبيض، والأسود، وسوف تُذكرنا هذه اللقطات بالأشرطة الأولى للسينماتوغراف، والعرض السينمائي التجاري الأول في العالم الذي نظمّه "الأخوين لوميير" في أحد المقاهي الباريسية في 28 ديسمبر عام 1895.
وفي هذه المُناسبة الإحتفائية، سوف يعرض المهرجان على شاشات فيديو موزعة في أماكن مختلفة كلّ "الملاحظات الفيلمية" التي صوّرها "جيرار كوران" خلال الدورة الرابعة لمهرجان الخليج، والثامنة لمهرجان دبي، وهي فرصة إضافية للتعرّف على الدورتيّن السابقتيّن، وإستعادة أوقاتٍ حميمة، وأحياناً شائكة، تُعيدنا إلى ذكرياتٍ عشناها منذ عامٍ مضى، لم نُعيرها إنتباهنا، أو نسيناها، ومن المُتوقع بأن تصبح أكثر تأثيراً، وحنينيةً بعد أعوام.
من خلال ما أنجزه في دبي بتواطئٍ لطيفٍ من الجميع، أشركنا "جيرار كوران"، وبمتعةٍ طفولية، في كلّ تفاصيل المهرجانيّن، وجمعنا سينمائياً في سلسلةٍ هي الأشهر، الأطول، والأكثر أصالةً، خصوبةً، وإستمراريةً في تاريخ السينما، والفنّ المُعاصر.
عندما نُشاهد البورتريهات، والملاحظات الفيلمية، سوف نتحول، راضين، أو مُرغمين، إلى ممثلين، مخرجين، ونقاد،.. بينما "جيرار كوران"، هذا الرئيس الفخريّ لمدى الحياة لأكاديمية "مورلوك" الموجودة في ذهنه فقط، وأذهان بعض "المُختلين سينمائياً" من رفقاء دربه، سوف ينتهز الفرصة، ويُصوّرنا من جديدٍ، وكأنه يُعيد إنتاج صوراً أخرى مختلفة عن تلك التي سبقتها، إنها بالأحرى إعادة تدوير سينمائية، وهي إحدى الخصائص الأسلوبية لأعماله، وهو يعرف مسبقاً، بأنه يمنحنا فضولاً إضافياً آملين بأن نشاهد أنفسنا في مناسبةٍ لاحقة.
ونظراً للإقبال الشديد الذي رُبما يشهده هذا العرض المُرتقب، أتخيل الشخصيات السينماتونية تستعجل خطواتها كي تحجز أماكنها، أو تستعدّ للتواجد منذ الصباح أمام صالة العرض، تماماً كنا نفعل أيام الجمعة، والأعياد.

وكما أخبرني "جيرار كوران"، بأنه لن يُوزع بسخاءٍ ـ كما هي عادته ـ البورتريهات على أصحابها، وسوف يكتفي بعرضها عن طريق "يوتوب" بعد فترةٍ كافية من تاريخ إنعقاد المهرجان، ولهذا، أعتبرها فرصةً فريدةً لمشاهدتها جماعياً في صالةٍ سينمائية، وعلى شاشة كبيرة .
في هذا الإحتفاء السينماتونيّ الذي لن يتكرر مرةً أخرى، سوف نستعيد حالات فرحتنا، وإندهاشنا عندما دخلنا صالةً سينمائيةً لأول مرة في حياتنا.
في تلك الفترة الصافية لم يطلب أحدٌ منا، كما هي العادة اليوم، إغلاق هواتفنا المحمولة، أو إبقائها صامتة، ولم تكن حساسيّتنا الصوتية الزائدة متضخمة كما هي اليوم.
في هذا العرض الإستثنائيّ، ونحن نتابع البورتريهاتٍ، أتخيل بأننا سوف نعود إلى زمنٍ مضى، وتتحول المُشاهدة فيه إلى حالةٍ من الفرجة شبيهة بتلك التي أبهجتنا في طفولتنا، وسنواتنا العمرية الأولى.
سوف نتفرج كما يحلو لنا، نُقرمش قطع البطاطس المقلية،ُ نلتهم المُسليات، ونشفط المشروبات الغازية.
في تلك اللحظات، سوف تختلطُ المكالمات الهاتفية، الهمساتٍ الأنثوية الخجولة، الأحاديث الجانبية، التعليقات الطريفة، الضحكات العالية، وخشخشة المُغلفات البلاستيكيّة، وتشكل فيما بينها بناءً صوتياً لحظياً، ومُرتجلاً، ولن ينقصها إلاّ موسيقى "فرقة حسب الله" الفرنسية.
الأهمّ، بأنني علمتُ من مصادر موثوقة، ومقرّبة من إدارة المهرجان، بأنه سوف يُسمح للضيوف بإصطحاب الأطفال، الأصدقاء، المعارف، أفراد العائلة، والجيران،...
إنه عرضٌ إستثنائيّ، نحن أبطاله، ومتفرجيه.
دعونا إذاً نستعيد طفولتنا، ونشاهد أنفسنا.

قد ينال إعجابكم

متابعات

"وطن" .. ألم العراق

يصعب ذكر كل التفاصيل في "وطن" عباس فاضل، في سرده الملحمي الطويل وإصراره على إبقاء التراتبية الزمنية الواقعية للمَشَاهد..