نقد سينمائي

عين على أفلام الأوسكار التسجيلية

محمد موسى من أمستردام
يتميز الفيلم التسجيلي الامريكي (جحيم ثم العودة اليه مجددا)، والمرشح للفوز باحدى جوائز الاوسكار في فئة الافلام التسجيلية والمقرر إعلانها في السادس والعشرين من شهر فبراير الجاري، عن معظم الافلام التسجيلية التي تناولت الحرب الغربية المستمرة في افغانستان منذ عشرة أعوام تقريبا. فهو لا يكتفي بمرافقة جنود من دول غربية في حربهم الطويلة ضد حركة الطالبان في ذلك البلد الصعب، بل يعود مع بعض هؤلاء الجنود الى مدنهم الهادئة، ليسجل من هناك الحياة المدنية لهم، وبعد ان مروا بفضائع تلك الحرب.
فيلم (جحيم ثم العودة اليه مجددا) لا يكتفي بمشاهد سريعة معدودة، تكمّل "صورة" جنود جبهات حروب معاصرة ، كما يفعل مثلا الفيلم الدنمركي (أرماديلو، 2010) للمخرج جانوس ميتز، هو يمنح حياة ما بعد الحرب نصف وقت الفيلم تقريبا، ليتنقل بين مشاهد افغانستان، والمدن الامريكية التي قدموا منها، مسجلا في الجزء الامريكي الداخلي من الفيلم، ثم الصعوبات الكبيرة التي تواجه هؤلاء الجنود للعودة الى حياة "طبيعية" ما، خاصة اذا لم تقتصر جروح الحرب على ندبات نفسية، بل إصابات جسدية معيقة، كالتي يحملها (ناثان هاريس)، الجندي الامريكي، الذي سيحظى بالزمن الاكبر في الفيلم.
التركيز على أثر الحروب النفسي على الجنود، يقرب فيلم (جحيم ثم العودة اليه مجددا) للمخرج والمصور الفوتغرافي دانفوغ دينيس، من فيلم تسجيلي آخر (البيرة أرخص من العلاج النفسي، 2011)، والذي عرض مؤخرا في مهرجان أدفا السينمائي في العاصمة الهولندية امستردام. اذ تسجل المخرجة الهولندية سيمونا دي فريز وعلى مدار عامين، قصصا عن جنود امريكيين وعوائلهم يسكنون قرب اكبر القواعد العسكرية الامريكية (فورت هوود)، والاثار النفسية الجسيمة التي تركتها حربي العراق وافغانستان على بعضهم. لكنه ، اي الفيلم الهولندي، يبقى داخل حدود المدينة الصغيرة، على مشارف القاعدة العسكرية، ولا يختار الذهاب الى مناطق المعارك في الشرق الاوسط.

من المقابلات التي تنجزها المخرجة الهولندية لفيلمها (البيرة أرخص من العلاج النفسي)، كانت مع جندي امريكي خدم في العراق، وكان خارج للتو من مصحة نفسية. " منظر الناس يقومون بافعالهم اليومية، كالوقوف في طابور او البحث عن مكان لايقاف سياراتهم، كادا يدفعاني الى الجنون، فكرت احيانا بحمل سلاح وقتل ناس في الشوارع" يكشف الجندي للمخرجة المذهولة، عن "عذاب" العودة الى الحياة الطبيعية بعد نهاية خدمته العسكرية. " كيف يقف الناس هكذا في سوبر ماركت بانتظار دورهم، الا يعرفون الاهوال التي  واجهتنا في العراق" يكمل الجندي الامريكي لكاميرا المخرجة، والذي يكاد يكون حال لسان جندي فيلم (جحيم ثم العودة اليه مجددا). فالمشهد الافتتاحي للفيلم سجل غضب الاخير من عدم توفر مكان للسيارة التي كان يستقلها مع زوجته. هو جندي أمريكي آخر يصارع اشباح الحرب، مقتربا من الانهيار العصبي..

تسجيل يوميات ناثان هاريس سيخذ الكثير من وقت الفيلم. فالمخرج يرافقه مع زوجته الشابة، الى مراكز العلاج، لمساعدته على استعادة جزء من قدرته على الحركة، والتي تاثرت كثيرا بعد اصابة بليغة في افغانستان في عام 2009. لا تبدو الاصابة الجسدية قد نالت كثيرا من روح الجندي الشاب، او هذا ما يبدو للعالم الخارجي، هو يثير الضوضاء في كل مكان يحل فيه. لا يتردد في اعادة سرد قصة اصابته بكل تفاصيلها لكل عابري السبيل، ولا تضايقه عبارات الاعجاب والتعاطف من الذين يصادفهم  في حياتهم اليومية او اثناء علاجة الطويل .

يبدأ  زمن احداث الفيلم من افغانستان، فالوحدة العسكرية التي ينتمي اليها الشخصية الرئيسية في الفيلم، بدأت مهامها في وسط افغانستان في عام 2009. في مناطق اشد خطورة الآن عن زمن بداية حرب القوات الغربية عام  2001 ( وكما يخبرنا الفيلم نفسه). تكشف المشاهد الافتتاحية شراسة الحرب هناك. فاحد المشاهد الطويلة المبكرة التي سجلها المخرج الذي رافق الوحدة العسكرية تلك، ينتهي باصابة جندي امريكي، ينقله زملائه الى احد بيوت القرية الافغانية، قبل ان يلفظ انفاسه هناك. الحرب التي يوثقها فيلم (جحيم ثم العودة اليه مجددا) هي نفسها التي سجلتها افلام : (ريستريبو، 2009) للمخرجين تيم هيذرينجتون و سيباستيان جانغر و (معركة مرجة،2011) للمخرج الامريكي انتونيو ونيك ، مقاتلو الطالبان الذي يتحركون احيانا كالاشباح، يوجهون ضربات شديدة التاثير للقوات الاجنبية، ومساعي الاخيرة للتقرب من سكان المناطق المضطربة تقترب احيانا من الكوميديا السوداء، فالقوات الاجنبية تبدو احيانا وكانها قادمة من كوكب آخر، لذلك الذي يعيش فيه افغان كثر، تحكمهم عادات وتقاليد شديدة القدم والقوة.
بين الماضي ( زمن بقاء الجنود في افغانستان)، والحاضر ( حياة ما بعد عودتهم الى الولايات المتحدة الامريكية)، تتوزع مشاهد الفيلم في توليفة غير معتادة كثيرا في الفيلم التسجيلي، وخاصة بالاسلوب  الخاص الذي قدمه المخرج دانفوغ دينيس. فخطوات ناثان هاريس على عكاز المستشفى الامريكي تتلاشى تدريجيا، لتنتقل الى خطوات الجندي نفسه، لكن هذه المرة في احدى مناطق القتال في افغانستان. والحوار بين الجندي المصاب ومعالجه في العيادة الامريكية، ينتقل الى مشهد يتضمن حوارا ذو طبيعة مختلفة كثيرا، وعلى بعد الألف الاميال من المدينة الامريكية، بين الجندي نفسه واحد ابناء القرى الافغانية القريبة من قاعدة الوحدة الامريكية.

في الاحتفال الذي نظمته الوحدة العسكرية الامريكية بذكرى الجنود الذين فقدتهم في المعارك، يفشل الضابط المسؤول عن اكمال كلمته، بسبب تاثره الشديد على رفاقه الذين قضوا في المعارك هناك. لكن الحزن لا ينتقل الى الطرف الآخر من الشاشة ، فنحن بالكاد تعرفنا على هؤلاء الجنود او على رفاقهم، فالجميع مروا سريعا جدا على الشاشة، وحتى قصة ناثان هاريس، لم تقبض ابدا على المآساة التي يعبر عنها النموذج الذي تمثله الشخصية، خاصة مع المقاربة التي انتهجها الفيلم ، بعدم اجراء مقابلات مباشرة ، والاكتفاء بتسجيل يوميات معينة من حياة الجندي المعوق ، مع الاسراف في التركيز على هوسه بالاحتفاظ بالسلاح الناري في بيته، اذ يحمل هذا السلاح  احيانا الى غرفه نومه، لينشغل بالعاب خطرة مع سلاحه ، بدا بعضها بانها "رتبت" من اجل الفيلم. 
وحدها مشاهد التصوير الخارجي الرائعة، وخاصة تلك التي صورت معارك في حقول خضراء، هي التي ترفع مقام هذا الفيلم التسجيلي، وتشير الى حال التقنية المستخدمة المعاصرة ، والتي يمكن ان تصل الى مستويات متميزة  حتى في  ظروف خطرة كتصوير معارك ،فالفيلم يكون في افضل حالته عندما تجول كاميرا المخرج على وجوه الجنود المنتظرين، او في طريقهم الى امكنة القتال، لتكون المشاهد تلك اضافة اخرى مهمة للصور السينمائية التسجيلية القادمة من حرب افغانستان ، وصور الحرب بالمطلق ، والتي تدين لخبرة المخرج في حربي العراق وافغانستان ، واقترابه الحميم من عالم الجنود ، في لحظات السكون والوحدة مثلا ، وقبل ان تنفجر المعارك.

قد ينال إعجابكم