أكد الشيخ راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة التونسية، أن إجهاض الثورات العربية ليس ممكنًا وأن التحوُّلات الديمقراطية تسير في خطوط مُتعرِّجة صعودًا وهبوطًا وقد تمضي في ذلك عشرات السنين. وقال الغنوشي، فى كلمته الافتتاحية خلال اليوم الثاني من أعمال منتدى الجزيرة العاشر، إن التجربة التونسية تؤكد بأنه يمكن الثقة بأن الديمقراطية ستأخذ طريقها في هذه المنطقة من العالم، وأنه ليس فى جينات شعوبها ما يتناقض مع الحرية ولا في الإسلام ما يمنع ذلك. 

وفى بداية كلمته، قال الغنوشي: إن منبر الجزيرة لطالما كان صوتًا لمن لا صوت له مثلي وقد أذكت قناة الجزيرة نخوة العروبة كما أذكت أشواق الحرية فى هذه الأمة.

مخاض عاصف 

وأوضح الغنوشي أن العالم العربي يعيش مخاضًا عاصفًا وتدافعات واسعة وعميقة، مؤكدًا أنها مخاضات مُنْذِرَة ومُبَشِّرة في آن واحد؛ فهي مُنْذِرَة بحالة تبدُّد وتفتت للأمة، ومُبَشِّرة بنظام جديد تستأنف فيه هذه الأمة الخالدة دورها فى حضارة العالم. 

وحول الأزمة السورية، قال رئيس حركة النهضة: نرى جحافل لمئات الآلاف من السوريين المندفعين خارج وطنهم يبحثون عن مأوى فى هذا العالم؛ حيث إن هناك حكامًا مستعدون أن يحكموا بلادًا بلا شعوب لدرجة أن البعض رفع شعار "الأسد أو لا أحد"، وأصبحت بلاد العرب سجنًا كبيرًا ومعتقلًا واسعًا. 

وقال: فى ظل هذه الأوضاع المنذرة بالتبدُّد لابد أن أكون متفائلًا وأنا القادم من تونس؛ باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من أرض العروبة والإسلام. وتابع: أن التيار الكهربائي الذي هز تونس وامتد إلى أقصى أرجاء المنطقة ولا يزال يعصف بها سوف يستمر مفعوله حتى يُنتج آثارًا مشابهة ولو بتكاليف ومدد وأساليب مختلفة.

مسار الثورات ومستقبلها

واستعرض الغنوشي مسار الثورات العربية قائلًا إنه قبل سنوات كان العالم مُنْبَهِرًا بالملايين المحتشدة، التي انطلقت نحو الميادين والساحات؛ مطالبة بالحرية والكرامة ورحيل الأنظمة المستبدة التي انهارت أمام إرادة الشباب الثائر، ولم يعد متاحًا لأي طرف أن يصف العرب والمسلمين بأنهم غير مؤهلين للديمقراطية، لافتًا إلى أن الربيع العربي أصبح مصدر إلهام لشعوب العالم قبل أن تتغير المعطيات وتنجح قوى الردة والجذب للوراء فى إغراق الثورة السورية فى أتون الفتن وقد اختلطت الألوان وتشوَّهت الصورة وساد المشهد الإرهابي بينما ظلت هذه الثورة النبيلة ترفع شعارات الوحدة الوطنية.  

وتساءل رئيس حركة النهضة لماذا تغيرت خارطة المنطقة بهذه السرعة من مخاض ديمقراطي واعد إلى بؤر توتر وفتن وصراعات: هل السبب هو صعود الإسلاميين وفشلهم فى إدارة الحكم أم هي الضريبة الحتمية للتحول الديمقراطي وسنن التغيير التي تقتضي بالضرورة أن التحولات الديمقراطية تسير في خطوط مُتعرِّجة صعودًا وهبوطًا وقد تمضي فى ذلك عشرات السنين.

وأكد أن إجهاض الثورات ليس ممكنًا وذلك نابع من التجربة التونسية التي حافظت على شعلة الديمقراطية بعد إسقاط نظام استبدادي ونقل السلطة بطرق سلمية وإرساء دستور حداثي زاوج بنجاح بين الإسلام والديمقراطية ونص على الحريات الأساسية. وقال إن تونس نجحت فى تجاوز الأزمة السياسية، التى مرت بها وكادت تعصف بها بعد زلزال الانقلاب فى مصر، عبر رباعي الحوار الوطني وإنتاج توافق على حكومة محايدة قادت إلى تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية اعترف الجميع بنتائجها وأولهم حزب النهضة الذي ضرب مثالًا غير مسبوق بالمنطقة بالتنازل عن حكم مستحق بالانتخابات؛ إدراكًا للخطر المتربص بالتجربة وإعلاءً لأولوية الوطن على الحزب.

وأوضح أن النهضة تعد الكتلة الأكبر فى البرلمان ورغم ذلك تحظى بتمثيل أصغر فى الحكومة؛ لأن العبرة فى المرحلة الانتقالية الصعبة التي تمر بها البلاد هي ضمان الوحدة الوطنية والتوافق السياسي وضمان السلم الاجتماعي بما يحقق المسار الديمقراطي الذي لا يزال مُهدَّدًا رغم هذه النجاحات. 

مكافحة الإرهاب 

أكد الغنوشي أن تونس تخوض حربًا شرسة ضد الإرهاب بدأتها حكومة الترويكا برئاسة حركة النهضة التى صنفت تنظيم أنصار الشريعة تنظيمًا إرهابيًّا، وألقت القبض على العشرات من عناصره وأحبطت عددًا من هجماته. وقال: ربما نجح الإرهاب فى تسديد ضربات موجعة لصورة تونس كبلد سياحي باستهداف المتاحف والفنادق والاغتيالات إلا أنهم فشلوا فى السيطرة على قرية واحدة ليرفعوا علمهم المظلم فوقها في ظل التفاف الشعب حول قوات الشرطة والجيش للذود عن المدن والقرى.

دروس مستفادة 

وأكد رئيس حركة النهضة أن من الدروس المستفادة من ملحمة التحول الديمقراطي في تونس هو أن الديمقراطية فى العالم العربي ممكنة عندما تتوفر شروط تحقُّقها ولا تعارض بين الإسلام والديمقراطية، وأن الاستبداد ليس قدرًا حتميًّا على المنطقة. وقال إن نجاح تونس لم يكن صدفة، ولكن بفضل عوامل لم تتوفر بقدر مناسب فى تجارب أخرى بالمنطقة، مؤكدًا أن هذه التجارب سوف تلتحق بالتحرر دون استثناء حتى وإن تعددت السبل. 

وأوضح أن أول هذه العوامل هو تجنب الاستقطاب الأيديولوجي بين الإسلاميين والعلمانيين وجمعهم في حكومة واحدة، وأيضًا اعتماد نهج التوافق وذلك أن حكم الأغلبية، وإن كان كافيًا لإعطاء المشروعية في النظام الديمقراطي، فإنه لا يكفي فى المراحل الانتقالية التي تحتاج إلى أكبر قدر من التوافق، وهذا ما يفسر فشل حكومة الترويكا عام 2012 بعد فوزها بأغلبية 53%، كما يفسر فشل تجارب أخرى نتيجة الصراع الأيديولوجي أو الانقسام بين الأغلبية والأقلية. 

 وتابع: كما وقفنا بشدة أمام قانون الإقصاء السياسي ورفعنا شعار كل من أعلن قبوله دستور الثورة فهو ابن الثورة والسيد الباجي قايد السبسي رئيس تونس كان وزيرًا في حكومة النظام السابق ولكنه يحكم باسم دستور الثورة. وأكد أن نجاح الثورة التونسية ليس صدفة بل هو ثمرة مسار توافقي قادته حركة النهضة بالتعاون مع شركائنا فى الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل. 

مخاطر جديدة 

حذر الغنوشي من أن هذا النجاح لا ينفى وجود مخاطر جديدة على هذه الثورة فى ظل إصرار جهات عديدة داخلية وخارجية على إجهاض تجارب الربيع العربي لتُبَرْهِن على أن الشرق الأوسط غير مؤهل للديمقراطية، وأن المكان الوحيد المناسب للإسلاميين هو السجن أو زنازنين التعذيب أو المنفى. وأكد أن الإقصاء عدو التحول الديمقراطي، موضحًا أن هذا الخيار ليس جديدًا ولكن دعم الأنظمة الديكتاتورية في الشرق الأوسط قاد إلى الويلات في العالم والمنطقة وأدى إلى ظهور الإرهاب وانتشاره وتفجر الثورات. 

الإسلام والإرهاب

وشدد رئيس حركة النهضة التونسية أن الخلط بين الإسلام والإرهاب سيمنح المتطرفين مجالًا لاستقطاب قطاعات واسعة من الشباب العربي، مشيرًا إلى أن شعور هؤلاء الشباب بزيف الالتزام بدعم الديمقراطية سيصيبه بالإحباط والمزيد من النقمة على الذات والمجتمع والآخر. كما أن غياب السلام العادل والشامل ولاسيما فى قضية الأمة المركزية، قضية فلسطين، سوف يزيد من مشاعر الإحباط والاندفاع نحو الإرهاب والشك فى الديمقراطية ما دامت الديمقراطية الكبرى فى العالم لا تزال تقدم الدعم للأنظمة الديكتاتورية. 

وشدد الغنوشي على أن التجربة التونسية تؤكد أنه يمكن الثقة بأن الديمقراطية ستأخذ طريقها في هذه المنطقة من العالم وأنه ليس في جينات شعوبها ما يتناقض مع الحرية ولا في الإسلام ما يمنع ذلك.

وأشار إلى أن المستفيد من خلط الإسلام بالإرهاب هم الإرهابيون الذين يحاربون الديمقراطية ويعتبرونها كفًرا وأيضًا الأنظمة المستبدة، مؤكدًا أن الحل الأمني لا يكفي وحده للقضاء على الإرهاب ولابد من حلول سياسية وتنموية؛ فضلًا عن مواجهة الإرهاب على المستوى الفكري والديني. 

وقال الغنوشي: إننا فى تونس هزمنا الاستبداد وفي طريقنا لهزيمة الإرهاب وحين نبني اقتصادًا يوفر لجميع المواطنين العيش الكريم أعتقد أن الإسلام الديمقراطي سيكون هو صمام الأمان والبديل عن كل صور الإرهاب ويمنع قوى الاستبداد من مقايضة الحرية بالأمن.  

التجربة المصرية

وردًّا على سؤال حول الفروقات بين التجربة التونسية والمصرية، قال راشد الغنوشي إن هناك فروقات واضحة بين التجربتين؛ فالأوضاع فى مصر أكثر تعقيدًا فهناك جيش له دولته وهو مُكَوِّن أساسي في الدولة المصرية ولابد أن يكون جزءًا من معادلة الحكم. ولم يكن صحيحًا القول بأنه كان يجب على الإخوان ضرب خصومهم؛ لأن الحكم الانتقالي يحتاج إلى توافق وتقديم تنازلات كبيرة وهو ما فعلته النهضة وصولًا إلى دستور صوت عليه 94% من الشعب التونسي وكان أمرًا ضروريًا تحقيق هذا التوافق على الدستور في مصر.