نقد سينمائي

"أم الغايب" مادة جيدة تفتقر للبناء المحكم!

أمير العمري

عُرض بمسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة في مهرجان أبوظبي الثامن فيلم "أم الغايب" أول الأفلام الوثائقية الطويلة للمخرج المصرية نادين صليب. صُوّر الفيلم في جنوب مصر، في إحدى قرى محافظة سوهاج، ويستند على فكرة المرأة التي لا تُنجب والتي يطلق عليها "أم الغايب" أي الأم التي تتطلّع إلى الجنين أوالطفل المنتظَر لكنه لايزال غائبا أو بالأحرى، في علم الغيب.

يصلح هذا الفيلم نموذجا في رأيي للتوقُّف أمام العيوب التي تشوب الكثير من الأفلام الوثائقية التي يخرجها المخرجون الشباب في السينما المصرية تحديدا. فهو أولا يعتمد وبشكل أساسي على "غرابة" الموضوع أو طرافة الفكرة، أي غرابة البيئة وغرابة الشخصيات المصرية التي تظهر فيه، وكأن هذه الغرابة أوالطرافة كافية لكي يصبح هناك فيلم يُثير الاهتمام الجاد، بدعوى أن هذه الغرائبيات التي يجهلها العامة تعكس ثقافة الشعب، أو تفكير المصريين في حين أنها عادة ما تنقل لنا صورة معينة عن قطاع صغير من المصريين أو جماعة بشرية تعيش في ظروف معينة، هنا يصبح الفيلم أقرب في الحقيقة، إلى فيلم الاثنوجرافيا الذي يتوقف أمام بعض العادات والتقاليد والأشكال الخاصة جدا للوجوه ولطريقة الناس في التعبير، وعلاقاتهم المحدودة بالعالم، وبما يمكن رصده أيضا من غرائبيات في نمط حياتهم وسلوكياتهم وردود أفعالهم تجاه ما يصادفونه في طريقهم من عقبات، وكلها جوانب يتوقف أمامها صانع الفيلم طويلا في انبهار خاص، وكأن هدفه الأساسي هو توثيق نمط من أنماط حياة مجموعة بشرية معينة، دون أن يبذل جهدا خاصا في تحليل هذه الصور والعلاقات ودون أن يصل خلال بحثه إلى الإمساك بجوهر أزمتها، أو بمغزى تلك الصور والعلاقات في سياقها الأشمل. وهذا الانبهار هو الذي يمكن أيضا أن يجنح بالفيلم إلى "الفولكلور".

ينطلق فيلم "أم الغايب" أولا من البحث في موضوع المرأة التي لا تنجب، وكيف ينظر إليها الآخرون في مجتمع متخلف يعاني من الفقر والمرض والجهل، ومع ذلك، يمتلك القدرة على المعاندة والتكيُّف مع الأحوال مهما كانت مُتدنيّة (وكأن التكيُّف ميزة في حد ذاتها أو أن هذا التكيف والقدرة الخاصة على قبول الضيم والفقر ميزة تضفي العظمة على الشعوب كما تقول لنا وتكرر مثل هذه الأفلام الشعبوية!). وبالتوازي مع الصبر على الحياة الشاقة، تصبر النسوة أيضا على ما يحلّ بهم من "عقم" يعزونه عادة إلى "المشيئة الإلهية" في استسلام قدري فطري رغم كل ما يبذلونه من محاولات جادة وشاقة للتغلب على هذا "القدر" أو الفكاك من حالة "العقم" التي لها أسباب كثيرة في عالم الطب.

كثير من الرجال يُطلقّون نساءهم اللاتي لم يحملن ويتزوجون غيرهن، وقد تكون الزوجة الجديدة أيضا عاقر لا تنجب، فيطلقها الرجل ويعثر على غيرها، وهناك، في تلك المناطق التي تعيش حياة بدائية بمعنى الكلمة، تجد من يصفون الرجل الذي لا ينجب أطفالا بأوصاف لا تسرّ أحدا، فهو رجل بلا مستقبل (من الذين سيحمل نعشه الى القبر بعد أن يموت، ومن الذي سيخلفه؟)- كما يقول رجل عجوز يبدو في الفيلم وكأنه صوت الحكمة، فهو رغم تقدمه في السن، مرتبط بزوجته ارتباطا كبيرا، لا يمانع في أن يربت على ظهرها أمام الكاميرا، أو يطلب منها أن تمدّ ذراعها لكي يتخذ منها وسادة ينام فوقها، ويتحدث عن غرامه وولعه بها. ولكن هناك أيضا تلك التي لا تحمل وتروي كيف لجأت إلى رجل يعتبرونه ساحرا، يطلب منها أن تأتي بأشياء غريبة، أو يطلب منها أن تقف فوق ثعبان هائل الحجم. وهذه هي بطلة فيلمنا هذا، غير أن المشكلة الأساسية أن الفيلم لا يتابع هذا الجانب المتعلق بالأسطورة، أسطورة أُمّ الغائب، ماذا يحدث لها، وكيف تُجرّب الوسائل الغريبة لكي تحمل، اكتفاء بما نشاهده في مشهد واحد عندما نرى امرأة شابة تتقلّب على الأرض المليئة بالحصى والأتربة مرات عديدة اعتقادا منها بأن هذا كفيل بأن تحمل.

 كما لا يتركز اهتمام المخرجة نادين صليب بقصة "حنان" تتابعها في سياق قصصي ذي بناء محكم، بل تتابع الكثير من الشخصيات، البعض منها بشكل عابر، والبعض الآخر تتوقف بالكاميرا أمامه طويلا، لكي نستمع إلى الحكايات والتعليقات المُعادة والمكررة، حتى أن الفيلم يمتليء بالحشو والثرثرة التي لا تتوقف، وبأصوات الأطفال أثناء لهوهم، بحيث يفقد المتفرج القدرة على التركيز ومتابعة الشخصية الرئيسية التي كان ينبغي أن تتابعها المخرجة في سياق قصصي مشوق محكم البناء.
تطرح المخرجة أحيانا الكثير من الأسئلة على الشخصيات التي تحاورها، وهي كما أشرنا، مُتعدّدة، كما قد تتدخل في الحديث أحيانا، دون أن نراها من وجهة نظر الكاميرا، كما تستخدم كعادة السينمائيين الشباب في الوقت الحالي، الكاميرا المحمولة الحرة التي تهتز وهي تتابع شخصية ما أثناء سيرها أو جريها. ولا يتوقف الحكي والثرثرة سوى لِماما في هذا الفيلم المرهق بطوله وعدم قدرة مخرجته على السيطرة على المادة التي صورتها ووضعها في قالب فني قصصي لافت. فالمادة تتوزع على الفيلم بشكل عشوائي، وكأن كل ما تم تصويره يصلح للاحتفاظ به وعرضه على المتفرج.

وعندما نقول قالبا قصصيا، نبدو وكأننا نصرخ في واد، والسينمائيون من صناع الفيلم الوثائقي في وادٍ آخر، فهناك اعتقاد لديهم بأن الحصول على مادة (غريبة) جديدة كما أشرنا، يكفي في حد ذاته لعمل فيلم وثائقي جيد، وهو ما يجيب عنه هذا الفيلم الذي يسقط في قالب الريبورتاج التليفزيوني، شأنه في ذلك شأن الكثير من تلك الأفلام التي نشاهدها كثيرا اليوم، فالمخرجة هنا تحقق في حالة معينة وتستمع للكثير من القصص والحكايات، بما فيها قصة "الداية" التي كانت تساعد النساء على الحمل والولادة، والتي توفيت، وتصور حنان وهي تقوم بزيارة قبرها، كما تصور زوج حنان (عربي) وهو يتناول  الطعام مع زملائه، ثم وهو يقوم بتشييد مقابر، ثم تبتعد المخرجة عن كل هذه الشخصيات، لتعود في الربع الأخير من الفيلم إلى "حنان" التي لم تحمل منذ أن تزوجت زوجها عامل البناء المتخصص في بناء المقابر. وعندما تحمل أخيرا فإنها تفقد الجنين بعد شهر واحد من احتفال أهل القرية والقرى المجاورة أيضا بحملها.

هذه الشخصية وقصتها كانت تستحق وحدها عمل فيلم كامل متكامل عنها، أو كانت تستحق أن تكون محور فيلمنا هذا، تبني عليها المخرجة ومنها تتفرّع إلى بعض التفاصيل الأخرى التي تدعم الصورة التي أرادت توصيلها إلينا عن حلم المرأة في الحمل والانجاب في مجتمع لا يعترف لها بدور آخر. ولكن حتى هذه الزاوية النقدية لا تولّيها المخرجة ما كانت تستحقه من اهتمام، كما لا تولّي فكرة "أم الغائب" اهتماما كافيا ولا تبحث كثيرا في تلك الأساطير الشائعة عن العقم والحمل والعلاج في تلك البيئة المتخلفة التي تستحق الفهم والتحليل وليس إبداء الإعجاب.

ومن أكبر مشاكل هذا الفيلم الاستطرادات الكثيرة التي تعيق السرد، فالفيلم يمكن أن يستمر إلى ما لانهاية، فالمخرجة لا تعرف أين تتوقف ومتى تقطع وتنتقل إلى مشهد آخر، كما لا تخرج كثيرا عن نطاق اللقطات القريبة الطويلة، وأحيانا تكتفي بلقطات دخيلة للنيل أو لعنكبوت ينسج خيوطه في السقف، أو بأطفال يكررون اللعب بنفس الطريقة. ويساهم هذا كله في نوع من الترهل في الايقاع فلا يبدو أن هناك تخطيطا فنيا محكما من الأساس يقوم على بحث جيد وإعداد دقيق لمشروع الفيلم قبل التصوير، بل تبدو المخرجة وكأنها تعتمد على ما يتداعى أمام الكاميرا أثناء التصوير، ولكن دون القدرة على استبعاد ما لا ضرورة له أو ما يفيد تكرار الفكرة، بل وأساسا، دون توظيف المادة لخدمة "قصة" ذات معالم نقدية محددة المعالم، يمكنها أن تجذب انتباه المتفرج لمدة ساعة ونصف الساعة.

ويمكننا أن نوجز عناصر ضعف الفيلم في النقاط التالية:
1-  اعتبار الغرابة أوطرافة الفكرة عنصرا كافيا في الفيلم السينمائي دون القدرة على تطوير الفكرة بحيث تتحول إلى دراسة بالكاميرا لظاهرة ما من الزاوية الاجتماعية، إكتفاء بتسجيل السلوك كما لو كان المخرج سيستخدم مادته في بحث انثروبولوجي.
2-  فقدان البناء القصصي المتماسك الذي يعتمد على شخصية رئيسية وشخصيات ثانوية تخدم الفكرة وتدعمها.
3-  الخلط بين الريبورتاج أي التحقيق التليفزيوني، وبين الفيلم الوثائقي.
4-  الثرثرة الكلامية والبصرية والاعتماد على ما تقوله الشخصيات وكأن الحكايات التي يستمع إليها المتفرج كافية كوثيقة، في حين يجب أن تشغل المخرجة نفسها بالبحث عن طرق جمالية للتعامل مع تلك المادة ومداخل مبتكرة لتصوير الموضوع.

قد ينال إعجابكم