نقد سينمائي

"تهريب السلاح".. التشابك والالتباس

قيس قاسم

"في ليلة من ليالي شهر سبتمبر عام 1995 أسقطت طائرة من الجو أربعة أطنان من السلاح المُهرّب فوق الأراضي الهندية، وبعد أيام قليلة على عملية الإسقاط عاد نيلس هولك إلى الدنمارك محملاً بالأسرار، فمال إلى الصمت والعزلة، لكن وبعد أن أُلقي القبض على تاجر سلاح بريطاني ووجهت له تهمة قد توصله إلى حبل المشنقة لعلاقتها بعملية الإنزال، ظهر فجأة اسم الدنماركي في تحقيقات الشرطة وظهرت معه أزمة دبلوماسية بين البلدان الثلاثة: الهند، بريطانيا والدنمارك، فضحت تداعياتها أدواراً سياسية ومخابراتية ألحقت أضراراً بكل الأشخاص المشتركين فيها. في هذا الوثائقي سنفهم ونطِّلع على حقيقة ما جرى في هذه القضية".

هذا المقطع ورد كما هو في المرفق الدعائي لفيلم "تهريب السلاح" والذي يُفترض أنه يقدِّم نبذة مشوقة ومختصرة عن الشريط الذي سنفهم ونطِّلع على تفاصيل قصته الواقعية من خلاله، بغض النظر عن الشكل الذي سيتخذّه لنفسه، لكن كل هذا التصور سيصطدم بوقائع غامضة عصيّة على الفهم داخل الشريط علاوة على أنه لا يُقدِّم توضيحات مقنعة عن جزيئات ظلّت مبهمة وستبقى كذلك لصلتها بأجهزة من بين وظائفها الأخرى: التكتم. باستثناء كونها، طبعاً، قابلة للتحليل الآتي من خارجها ولهذا فالشريط في حقيقته يُقارب أطرافاً فيها جاهلاً بمواقف أطراف أخرى، وخاصة أجهزة المخابرات الهندية والبريطانية وحتى الروسية وهذا بالضبط ما جعل من هذا النص السينمائي الآخاذ مادة شاملة، مفرداته تؤلِّف وحدة منظور يسعى لعرض مصائر البشر في اللحظة التي يلامسون أو يقتربون فيها من نيران الأجهزة السرية أو حين تتقاطع خطواتهم، لأي سبب كان، مع مصالح سياسية "عليا".

وقائع الشريط تكفي لإشعارنا بعجائبية هذا العالم وطُرق تعامله مع البشر والحكومات، لكنه في نفس الوقت يستدعي في ذهن مشاهده أفكاراً وأسئلة أبعد وأعمق مما جاء في موجزه، لأن القضية التي تناولها مخرجه الدنماركي أندرياس كوفود هي أكثر تعقيداً من واقعة مشوِّقة وضعت بقالب مغامراتي وأعيد سردها بشكل درامي.
ينطلق الوثائقي الدنماركي من مكانين متباعدين جغرافياً  يسكنهما شخصان هما بطلا حكايته. الأول يقيم فيه "كيم ديفي". قلنا "كيم ديفي"؟ ألم يكن اسمه في الموجز؛ "نيلس هولك"؟! هذا ليس الالتباس الوحيد في شخصية الرجل الدنماركي، فقد تعمّد ومن أجل التمويه على شخصيته الحقيقية، انتحال أسماء كثيرة ونسب نفسه إلى مدن ودول مختلفة، ما زاد من غموضه الذي سيترك ظلاله على متابع حكايته، التي تبدأ من صالة ذلك البيت حيث يتابع عبر التلفاز أخبار قضيته التي تشعّبت وتعقّدت وحاول صانع الوثائقي تبسيطها إلى أقصى ما يستطيع، فأعاد تمثيل المشاهد حسب تسلسل ما قاله الرواة وما جمعه من أدلة طيلة سنوات، كون الحدث يعود إلى التسعينيات من القرن الماضي في حين وقائعه السينمائية تجري في أواسط العقد الثاني من القرن الجديد.

نفهم من كلام "نيلس هولك" المبتسر أنه كان وفي مطلع حياته شاباً حيوياً باحثاً عن الحقيقة ومدافعاً عن المظلومين، متأثراً مثل كُثر من شباب الستينات بالأفكار اليسارية والتحررية ومناهضاً للإمبريالية ولحروبها في مناطق كثيرة من العالم، باحثاً عن مكان يطبق فيه ما يؤمن به من مبادىء.
على مسافة بعيدة من منزله الريفي وفي شقة فاخرة في لندن كان يتابع نفس الأخبار رجل عجوز مصاب بمرض خطير في الرئة له علاقة مباشرة بهولك والذي بسببه تعذّب وذاق مرارة وقسوة السجون الهندية، التي خطّط مع مخابرات بلده  كي يقبع فيها "الإرهابي" الدنماركي.. لا هو نفسه!
 حكاية غريبة ستتجمع بعض خيوطها من خلال ما يسرده الرجلان عن عملية "تهريب السلاح" الملتبسة ودور كل واحد منهما فيها.

وجد نيلس هولك في أعضاء جماعة مدارس "أناندا مارغا" ومؤسِّسها "باربهارت ساركار" في غرب البنغال الهندية مثالاً للسلوك السلمي والإيمان الروحي الخالص فتحمّس لمساعدتهم وتقديم كل عون إليهم، غير أن حادثة مقتل مجموعة من رهبان المدرسة وبعض حُرّاسها في منطقة "بوروليا" عام 1982 دفعته إلى التطرف وتحويل مسار تفكيره السلمي إلى عنفي، فقرّر الانتقام من قتلتهم ومن الحكومة المحلية الستالينية التي حسب اعتقاده تواطأت معهم لتنفيذ الجريمة لأسباب سياسية تهدف إلى إضعاف نمو المدارس وتحجيم تأثيرها.
لقد راح لسنوات يخطط بالطريقة التي تقوِّي من سواعد قادة المدارس وعمل على تأمين السلاح لهم من أجل الدفاع عن أنفسهم.
 "محاربة شيوعيّ إقليم البنغال" هدفاً وضعه لنفسه وأعلنه أكثر من مرة في مقابلات صحفية، وهذا ما سيقوده إلى البريطاني "بيتر بليتش" رجل المخابرات المتقاعد وتاجر السلاح ما بعد سنوات الخدمة. تحريات الدنماركي ستوصله إلى الرجل وسيطلب منه توفير أسلحة يوصلها إلى الهند ويسلمها لمسؤولي المدارس في البنغال مقابل مبالغ مالية كبيرة. لقد أدرك البريطاني خطورة العملية فاتصل بمخابرات بلاده وبزملائه القدامى وأخبرهم بلقائه مع نيلس.

لم يعترضوا على تعاونه معهم بل وافقوا على الفكرة، فراح يُرتِّب عملية نقل الأسلحة عبر بلغاريا بطائرة روسية مدنية لنقل البضائع. يكشف هذا القسم التداخل بين عمليات تهريب السلاح والاتجار بها بطرق غير شرعية وبين معرفة أجهزة المخابرات بجزء كبير منها. ويُسلِّط الضوء على التعاون و"اللعب" المخابراتي، فقد نقل قسم المخابرات "إم 15" إلى الهنود تفاصيل العملية التي تورطت بها جهات ودول كثيرة آسيوية وأوروبية، وخططوا لإجبار الطائرة على الهبوط حال دخولها الأراضي الهندية ليحبطوا مخطط نيلس ويُدخلونه السجن بتهمة "الإرهاب" والتشجيع على أعمال العنف.
ستطلب المخابرات من عميلها المتقاعد أن يرافق الدنماركي في الرحلة، وسيقبل ليرتبك أفدح الأخطاء في حياته كما سيعترف لاحقاً. لم يُدرك مخاطر موافقته لأنه اطمأن إلى أن المخابرات الهندية وبالتعاون مع القوة الجوية ستُرغم الطائرة على الهبوط وسينتهي الأمر فيعود إلى بيته بعد أن يقبض أرباحه. سيطغى الغموض على كل ما سيأتي من أحداث بعد هذا الجزء من الشريط المشوِّق والمحير.

فالطائرة دخلت الأجواء كما كان مخططاً ورمت حمولتها ولم توقفها السلطات الهندية. في طريق العودة اضطرت الطائرة إلى الهبوط في مطار نيودلهي للتزود بالوقود وكأن شيئاً لم يحدث. في هذه الأثناء جاء رجال الجمارك فشعر هولك بالخوف وفرّ هارباً إلى داخل المطار واختفى! أما الإنكليزي فقد اعترف للشرطة بالقصة كاملة بعد أن اعتقد انها قد ألقت القبض على نيلس. لم يُصدِّق المحققون قصته وحين طلب منهم الاتصال بالمخابرات الإنكليزية لمعرفتهم بالتفاصيل، نكر هؤلاء معرفته به وبقصته فوجد نفسه متورِّطاً في قضية تهريب سلاح غير شرعية محكوميتها قد تصل إلى الإعدام، وأودع السجن لسنوات دون أن يدافع عنه أحد، في حين لم يذكر أحد اسم الدنماركي نيلس أبداً في القضية.
ينعطف الوثائقي إلى جانب يتعلّق بطبيعة السجون الهندية وما يُمارَس داخلها من أنواع التعذيب وإذلال السجناء بحيث لا يمكن مقارنتها بأي سجون أخرى في العالم. ستكون السجون وبعد سنوات النقطة التي سيتعكّز عليها نيلس هولك في رفضه تسليم نفسه إلى المحاكم الهندية وإصراره على تنفيذ عقوبة حبسه في بلاده بسبب سمعة السجون الهندية السيئة ومن احتمال تعرُّضه للاغتصاب والتعذيب الشنيع.

لم نفهم لماذا أنكرت المخابرات الإنكليزية درايتها بالموضوع وادّعت عدم معرفتها ببيتير في حين أنها هي من شجعته على المضيّ في الخطة؟ ثم لماذا لم توقف السلطات الهندية الطائرة وحمولتها؟ عن السؤال الأخير سيظهر أن الحمولة لم تسقط في مكانها المحدد بسبب قوة الرياح وخطأ تحديد المنطقة، لكن لماذا سكتت المخابرات البريطانية؟ وكأنها خافت من افتضاح دورها في عملية "إرهابية" تخص دولة ثانية وأيضاً خافت من كشف تعاونها المباشر مع الهند في قضايا تمس سياساتها الداخلية، وخاصة علاقة الحكومة المركزية بإقليم البنغال اليساري ومواقفها من الحركات الدينية غير الإسلامية، إلى جانب الخشية من تفسير دورها وكأنه قبول ضمني بعمل إرهابي يقوم به متطرف أوروبي. تعقيد وتشابك بسببهما تحمّل العميل البريطاني السابق سنوات من عمره قضاها في أقذر السجون وأخطرها، ولم يتخلص منها إلا حين اشترط رئيس وزراء بلاده تمرير صفقة بيع أسلحة للهند مقابل الإفراج عنه. بعدها سيظهر اسم "نيلس هولك" أو كما عُرف في الهند بـ "كيم ديفي" وستطالب سلطاتها بعد أكثر من عقد بتسليمه إلى قضائها.
المُحيِّر أن الحكومة الدنماركية قد وافقت على المقترح ما أثار حفيظة الضحية الإنكليزي الذي سيتعاطف مع الرجل الذي كان سبب محنته، لا من أجل عينيه ولكن فقط حتى لا يُكرِّر تجربته مع السجن وحتى ينتقم من موقف مخابرات دولته، لأنه شعر وبالتجربة أن ليس هناك من قيم تحكم العلاقات المخابراتية وإذا سُلم نيلس إلى الهند فهذا لن يضفي على الموضوع جديداً، فالمخابرات لا تراعي ولا تلتفت إلى قيمة الانسان وأحاسيسه خاصة حينما يكون ضعيفاً كما هو الحال مع نيلس الذي كوَّن أسرة ويخاف اليوم من تركها والذهاب إلى "الجحيم " بنفسه.

سيتقدم الوثائقي خطوات  ويعرض أسراراً مذهلة عن القضية بعد أن حصل على مراسلات سرية بين الجهتين الهندية والبريطانية، وكيف سهّلت المنظمات الدينية المؤيدة لمدارس "أناندا مارغا" وبعض أعضاء البرلمان عملية تهريب نيلس هولك خارج الهند، لكنه ظل محتاراً في تفسير سلوك الأطراف الرسمية في قضية أخذت مساحة واسعة في وسائل إعلام الدول المعنية بها، بسبب الكتمان التام حولها، وازدادت الإشاعات حول المساهمين فيها وحتى قبول المحكمة العليا الدنماركية بعدم ترحيل مواطنها إلى الهند أحاطته الكثير من الشكوك والأسئلة المتعلقة بمفهوم "الإرهاب" وكيف تتغير معاييره وفق طبيعة "المتهم"، فهنا عومل نيلس كإنسان له قيمته العالية وفي حالات أخرى يعامل مواطن بلد ثاني بطريقة مختلفة أشد الاختلاف! هذا استنتاج من وحي كلام العميل البريطاني الذي زار "خائنه" في كوبنهاغن وقال: "قرار المحكمة صائب لأن تسليم المتهم كان سيتعارض مع حقوق الإنسان وأن موقف حكومته المتشدِّد من قضية تسليمه نابع من قوة علاقتها بالهند، فلو كانت عملية تهريب السلاح قد جرت في ناميبيا أو النيجر لما تحمست كما تتحمس الآن لتسليمه إلى دولة لها روابط سياسية ومصالح قوية مع الغرب".

قد ينال إعجابكم