نقد سينمائي

رحلة البحث عن أصول موسيقى "الاسطمبالي" الإفريقية

تونس  - صالح سويسي

يبدو أنّ شريط "وايا رايي" لعصام السعيدي قد وجد قبولا طيبا لدى النقاد والإعلاميين في عرضه الأول، وربما كان لفكرة الفيلم دورها في ذلك، حيث عرض لتاريخ موسيقى "السطمبالي" في تونس من خلال شخصية عم الحبيب الجويني آخر حبة في عنقود هذا الفنّ ذي الأصول الإفريقية.
الصورة كانت أبرز ما ميّز العمل، وبدا واضحا أن عصام السعيدي قد استنفذ جهودا كبيرا ليقدم صورة سينمائية ممتازة في جمالية وإتقان رغم محدودية الميزانية.
 
السطمبالي... الموسيقى والجذور
يستعرض الشريط حكاية الحبيب الجويني أحد أهمّ وآخر رواد موسيقى "السطمبالي" في تونس وأحد آخر ورثة هذا الفنّ الإثني ذي الأصول الممتدة في عمق إفريقيا السوداء وأحد آخر عازفي آلة "القمبري"، ولو أنّ حكاية الجويني جاوتها أو تفرعت عنها حكايات أخرى ربما أخذ بعضها حيّزا أكبر من الحكاية الأصلية للعمل. وفي ذلك حكمة لا يعلمها إلاّ مخرج الشريط.

ينطلق الفيلم بإطلالة عازف "القمبري" الحبيب الجويني مصحوبا بابنه محمد ليتحدث عن هذه الآلة وعن موسيقى "السطمبالي" متدرجا في حديثه وصولا إلى تاريخ هذه الآلة وأصولها ومن خلال جذور موسيقى "السطمبالي"، وهو حديث يحيل المشاهد بالضرورة إلى أصول الجويني نفسه. حيث إنه من أم تونسية وأم تعود أصوله لإفريقيا السوداء وربما كانت مالي موطنه الأصلي. يقول الجويني أنّ جدوده الأولين جاؤوا إلى تونس في القرن الثامن عشر كعبيد، أتى بهم الأوربيون في قوافل، ويصر على انتمائه للجذور الإفريقية بل ولم يخف حلمه بزيارة موطن أجداده أو حتى رؤية تراب أرضهم رغم حبه الكبير لتونس.
عصام السعيدي في رحلته مع الحبيب الجويني تجول بالمشاهد في تفاصيل تونسية افريقية يعايشها بطل الشريط يوميا بين أفراد عائلته وأصدقائه الذين ينحدرون من نفس الجذور، وأثناء الرحلة يتابع المشاهد تفاصيل علاقة الجويني بكل المحيطين به في أجواء موسيقية مخصوصة بين أضرحة الأولياء الصالحين وما يقام فيها من "زردات" وما توفره تلك الاحتفالات التي تجمع الآلاف وأحيانا عشرات الآلاف من مريدي هذا الوليّ أو ذاك من أجواء روحية تجمع الموسيقى بالرقص والإنشاد.
 
 سينما مختلفة
من خلال رحلة الحبيب الجويني مع موسيقى السطمبالي، سعى السعيدي في هذا العمل التوثيقي إلى تقديم عمل سينمائيّ مغاير جمع فيه عددا هامّا من الشبّان على مستوى العمل التقني، وربما كان ذلك ممّا جعل العمل استثنائيا على جميع الأصعدة. فالسعيدي نأى عن المواضيع التي تضافر أغلب المخرجين التونسيين لتقديمها بعد الثورة، لم يسع هذا المخرج الشاب إلى القطع مع السائد وتكريس رؤية فنيّة جذابة ومثيرة في عمله الذي يغوص في عمق فكرة جميلة نسج خيوطه فريق كامل من المبدعين كلّ في اختصاصه، وتجندت لها جهود كبيرة ليخرج هذا العمل في صورة بهيّة تستفزّ المشاهد وتجعله يتابع كل ردهات العمل دون ملل، فالصورة في "وايا رايي" كانت نقطة القوة التي جعلت من الشريط ملحمة من المشاهد والصور بعيدا عن التكرار، وفي حركة متتالية لا تتعب الناظر أو المتابع لكل تفاصيل العرض رغم طوله (64 دقيقة).
ويقدم الشريط حكاية الحبيب الجويني وهو موسيقي وعازف "اسطمبالي" ذلك النوع من الموسيقى الأثنية التي  تعود أصولها إلى إفريقيا السوداء، الجويني رجل جاوز الخامسة والستين من العمر من أم تونسية ووالد أصوله افريقية سوداء. قدم جدوده الأوائل عبر الرحلات التي كانت قامت بها قوافل الأوروبيين خلا القرن الثامن عشر ليتمّ بيعهم كعبيد في تونس.
 
فكرة الفيلم
فكرة الفيلم راودت المخرج وهو يشاهد عرضا موسيقيا جمع بين الإيقاع والجانب الروحي فلاحظ لأول مرة أصالة وتميز هذه الموسيقي الآتية من بعيد كما لفت انتباهه الشخص الذي يعزف هذه الموسيقى التي بقيت راسخة في ذهنه ما دفعه للبحث عن ذلك العازف كي يحاول فهم خصوصية تلك الموسيقى وسحرها الغامض الذي جذبه إليها. 

  
والتقى المخرج الموسيقي الحبيب الجويني عديد المرات  فحدثه انه لم يكن فقط وريث والده بل وريث أحد أكبر رواد موسيقى "الاسطمبالي". حيث كان والده يعلمه العزف على آلة القمبري ويحببه فيها وفي الآن نفسه كان يحدثه عن تاريخ الطائفة السوداء التي تم نفيها وبيعها بتونس،كما أن عراب مجموعة السود واسمه برناوي طمبوكتاوي أكد له أنّ أصولهم تعود الى "كابار". و"كابار" ما هي في الحقيقة سوى " كابارا" مدينة مالية قرب نهر يعبر طمبوكتو والطمبوكتاوي هو الشخص الذي تنحدر أصوله منها.                                                                                                         
وحسب هذه الروايات عن الحبيب الجويني ووالده، فضلا عن الاستماع إلى كلمات الأغاني ذات الإيقاعات الإفريقية رأى المخرج ضرورة الإسراع بالبحث في أرشيف تاريخ تونس في الماضي والحاضر، وبصبر كبير ومتابعة حثيثة واصل المخرج بحثه وحاول الوصول إلى إيجاد صلة بين المعلومات التي توصل إليها والروايات التي حدثه عنها الجويني.                                                                                                                  
إذن كانت فكرة الفيلم رحلة في البحث عن تلك الأصول لعازف يشده الحنين إلى أصول عائلته وموسيقى طائفته، لكن الفيلم بالمقابل أخذ منحى أخر أثناء التصوير من خلال إضافة شخصية الابن الأصغر للحبيب الجويني من إحدى زوجاته الثمانية، والذي يمثل تواصلا بين الماضي والحاضر والمستقبل بحمله لنفس رغبة والده ومشروعه  الفني.                               
 

قد ينال إعجابكم