عبد الستار العايدي

كتب حسن الترابي، الإخواني السوداني، رسالة إلى راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة، في شهر أكتوبر  سنة 2011 ، وهذا أهم ما جاء فيها: "أنا أنصحكم ، أن لا تبدؤوا في وضع برنامج الأسلمة والتمكين قبل التطبيق، قبل أن تفككوا مؤسسات الدولة القديمة، فهي تُشكّل خطرا كبيرا عليكم، نحن جربنا هذا قبلكم وعانينا منه... يجب عليكم تفتيت مؤسسات وإدارة دولة بورقيبة "العلمانية" لأنها ستقاومكم...فقط بعد إزالتها تستطيعون أن تبنوا الدولة الإسلامية "المنشودة".

الخطأ الأكبر الذي وقعت به حركة النهضة أنها لم تعي أن تغيير الهياكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية تغييرا جذريا مفاجئا وقلبها رأسا على عقب في دولة ما يحتاج حقبة طويلة من الزمن باعتمادها سرا على خطاب الجماعة الذي يقوم في الأصل والأساس على الولاء والبراء الديني والتوافق العقائدي والمذهبي المختلف عن خطاب الدولة الذي تتبناه ظاهريا والمؤسّس على فقه المواطنة والحريات العامة وخاصة حرية العقيدة وعلى التوافق السياسي والمجتمعي مع جميع أطياف المجتمع.. وعلى العدل السياسي والاجتماعي الذي يشمل الجميع.

سمح التأقلم المتواصل لحركة النهضة مع الأوضاع السياسية المتقلبة بالمكوث في الحكم على المدى المتوسط ولكن هذا أصبح تهديدا واضحا لوجودها على المدى الطويل داخل المشهد السياسي، خاصة في ظل فشل سياسة "الجماعة" الضيقة في استيعاب مفهوم الدولة الأكبر وإختراق كل مكوناتها والسيطرة على المراكز الحيوية للدولة بصفة كلية. هذا الوضع دفع بقيادات حركة النهضة للخضوع للأمر الواقع، والتحالف مع أعداء الأمس، أنصار النظام السابق، حيث لم تتردّد في تسمية شخصيات كانت مقرّبة من الحكم زمن بن علي على رأس مؤسسات عمومية وإدارية مقابل ولائها.

عملت الحركة منذ 2011 بعد أن توفرت لها القاعدة الشعبية أو ما يسمى بالقاعدة الانتخابية التي تمنحها الأفضلية والقوة داخل المشهد السياسي، على بعثرة أوراق الدولة وإعادة نثرها بما يتوافق وأجندتها للسيطرة على مفاصل القوة الحيوية للسلطة وتحريرها من براثن الجهاز الإداري التابع للنظام السابق حتى يتسنى لها التغلغل داخل الدولة والتحكم في القرار السيادي، وهذا كله تحت طائلة تنفيذ المشروع الإخواني بكل سهولة وتحويلها من صيغة الدولة الوطنية إلى صيغة الإمارة أو الولاية التي تعمل لصالح التنظيم العالمي للإخوان المسلمين.

قال حسن البنّا في إحدى رسائله:"وجه الخلاف بيننا وبين دعاة الوطنية، أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة، وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية".

سعت حركة النهضة منذ نشأتها أن تكون الحركة الوفية دائما لصالح نقاط أجندة التنظيم العالمي للإخوان وقد غاب عن أدبياتها تماما مفهوم الدولة وقيم الوطنية، حتى بعد أن كان لها الحكم بعد سنة 2011 لم تستطع أن تقدم أي جديد للسياسة التونسية سواء كان ذلك بخصوص المشاريع السياسية الوطنية أو القدرة على إدارة الدولة. فغياب مفهوم الدولة القطر وخضوعها لهذا التنظيم الهلامي الذي لا يؤمن بالوطن ويعمل فقط لمصالحه الخاصة جعل كل ما تفعله حركة النهضة يصبّ لصالح أجندات خارجية.

وقد سمح تواجد الحركات السلفية والعمليات الإرهابية التي تم تنفيذها ضد الجيش الوطني ورجال المؤسسة الأمنية بمنح حركة النهضة الغطاء المناسب، أولا، للتخطيط جيدا لتخزين العتاد والسلاح كضمان مستقبلي إذا ما نشبت مواجهات مسلحة بين أنصارها والمؤسستين العسكرية والأمنية وتوفير كذلك الامدادات اللوجستية للعناصر الإرهابية المتواجدة داخل التراب التونسي، وثانيا للتخطيط بكامل الأريحية لجمع وتسفير المواطنين الداعمين لها إلى سوريا وليبيا كمقاتلين مرتزقة والسماح لبعضهم بالعودة سرا ومسح كل ارتباطاته بالتنظيمات الارهابية وإستغلال ما تدرّب عليه وما تعلّمه في خلق خلايا نائمة لتوظيفها حين الساعة المناسبة. 

الأمن القومي بالنسبة لفكر قيادات حركة النهضة هو الأمن القومي الخاص بتوفير الحماية لفكر وأجندات الجماعة الاخوانية، فتوظيف بعض أجهزة المؤسسة الأمنية لصالح الحركة وخلق أجهزة أمنية موازية هو سعي لتطبيق خطة السيطرة والتمكين بعد فشل خطة الهدم من الداخل، وقد نجحت إلى حدّ ما في أن تعبث ببعض أوراق الأمن القومي خدمة لمصالح خارجية وسقطت هذه الخطة بعد إنحسار المدّ الاخواني الدولي مما ساهم في كشف غاية الحركة سريعا رغم طمسها للأدلة التي تدينها وتدين جهازها الأمني السري الذي يعمل على تفعيل كل ما تم التخطيط له سابقا في إسقاط المؤسسة الأمنية السيادية تماما. 

إقتصر معدل النمو في تونس على 1.6 بالمائة خلال الفترة 2011-2019 مقابل 4.4 بالمائة بين سنتي 2000 و2010، وفق ما نشره المعهد التونسي للقدرة التنافسية والدراسات الكمية على موقعه.

واستندت توقعات سنة 2020 إلى انخفاض غير مسبوق يقدر بـ -7.3 بالمائة ليصل في عام 2021 الى 4 بالمائة.

وينطبق الشيء نفسه على العجز الجاري الذي ازداد سوءًا، بسبب زيادة العجز التجاري من 7.5 بالمائة في 2011 إلى 13.1 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي خلال هذا العام وعلى المدخرات الوطنية الإجمالية التي لم يتجاوز متوسط معدلها 10.8 بالمائة من الدخل المحلي الإجمالي (خلال الفترة 2011-2020

وكشف المعهد أيضا عن خسارة في حصته السوقية في الاتحاد الأوروبي، حيث انخفض مستواها من 0.62 بالمائة في عام 2010 إلى 0.55 بالمائة في المتوسط خلال الفترة 2011-2016 ، و 0.51 بالمائة في عامي 2017 و 2018.

وبلغ معدل البطالة 16.2 بالمائة في المتوسط خلال فترة ما بعد الثورة (مقابل 13.5 بالمائة في المتوسط  خلال الفترة 2000-2010.

أرقام تؤكد عدم عزم الحركة بعد مسكها زمام السلطة في تونس على رسم استراتيجية وخطط لهدم الاقتصاد بتوظيفه لخدمة أجندتها المحلية والدولية بدل ايجاد تدابير جذرية لإصلاحه بإعتباره عماد الدولة، وقد برز ذلك حين سعت قيادات الحركة ونوابها في البرلمان لإقرار المصالحة مع رجال أعمال فاسدين اقترضوا أموالا من الدولة ولم يقع استردادها إلى حد هذا اليوم، بل تم إخفاء الوثائق والملفات الخاصة بهذه المسألة لإستغلالها من قبل الحركة في إبتزاز هاته الزمرة من رجال الأعمال كسند مادي ولوجيستي لها. كما أن فشلها في إصلاح الاقتصاد ونيتها في خلق إقتصاد يخدم حاجة الجماعة جعل الحكومات تركن إلى الطلب المتواصل والمتزايد للقروض من البنوك الدولية ومرتهنة للهبات والمساعدات. 

كما سمحت لأباطرة الاقتصاد الموازي والمهرّبين ورجال الأعمال الفاسدين الموالين لها بالتغلغل داخل النسيج الاقتصادي ، وعملت على إيجاد الإطار القانوني الذي يمثل غطاء لأعمالهم ولأجندتها في تخريب الاقتصاد، ولعل "قانون الانعاش الاقتصادي" الذي عرضته حكومة هشام المشيشي وصادق عليه البرلمان الدليل المادي الذي يؤكد مسعى الحركة لهدم الاقتصاد لصالحها. 

لاقت حركة النهضة صعوبة في تحيين إرثها خلال هذه العشرية من الزمن في السلطة، حيث يقول أحد المسؤولين الجهويين للحركة: “لقد أنشئ الحزب كجواب على ثلاث نقائص في العهد البورقيبي: الديمقراطية، والاعتراف الثقافي بالمكوّن الديني للهوية، والإدماج الاجتماعي. لقد تحقق المطلبان الأولان، لكننا عاجزون عن تحقيق المطلب الثالث.” 

في خضم التنوع الثقافي التونسي ، الذي يجمع بين المدرسة البورقيبية والمدرسة الزيتونية الوسطية المعتدلة ومدارس الثقافة الغربية العلمانية المختلفة، نجحت حركة النهضة خلال هذا العقد من الزمن الذي مضى، وهي السلطة الحاكمة، أن تخترق بعض خطوط المنظومة المجتمعية بسعيها الدائم لزرع أفكار الجماعة الإخوانية بين فئات المجتمع تحت معطى عام وهلامي هو الهوية الإسلامية. ودون أن تدرك وقعت في فخ الجمع بين الدين والسياسة الذي جعلها تتخبط بين الواقع التونسي المعقّد والنظري الإخواني العالمي.

فأفكار حسن البنّا ومن وراءه الجماعة الاخوانية، تضمنت إقامة مجتمع موازٍ يتشكل عبر التحكّم في مناهج ونظام التعليم والتربية ووسائل الإعلام وعبر المؤسسات الخيرية، ولذلك سعت حركة النهضة لاستدراج المجتمع عبر الخدمات الاجتماعية، والعمل بالقرب من الناس في الأحياء السكنية ومراكز العمل والأسواق، وتفعيل علاقات التضامن والتكافل التي أخذت في التلاشي، وملء الفراغ الذي تركته الدولة، وذلك بتأسيس شبكة من الجمعيات الخيرية في مجالات التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية، ومساعدة الأفراد على تكوين المشروعات الاقتصادية الصغيرة.

ورغم ما قامت بتنفيذه الحركة، إلا أنّ خريطة عمل الحركة قد فشلت أمام المسألة الاجتماعية والانقسامات الاجتماعية والجهوية التي تعاني منها البلاد، حيث لم يعد الحزب قادرا على إنتاج نموذج لشرح الواقع يمكن ترجمته إلى عمل سياسي، وأصبحت حوافز التصويت للنهضة في كل إنتخابات مثل، المرجعية الدينية، والقطع مع النظام السابق، والسيادة الثقافية والسياسية وتمثيل الطبقات الأكثر تهميشا في المجتمع، سبيلا للتصويت لأحزاب وائتلافات أخرى.

ولخدمة المصلحة المرحلية، أيّد قيادات حركة النهضة حرية التعبير التي تحمي الحقوق السياسية وتحرّر المؤسّسات الدينية والخطاب الديني من سيطرة الدولة، لكنهم يرسمون مخططا سريا لهدم المشروع العلماني أو الثقافة العلمانية التي تهدّد وجودهم، هذا المشروع الذي وصفه راشد الغنوشي زعيم النهضة بأنه "سلطوي دافعه الرغبة في استبعاد الدين من الحياة العامة والسياسة". 

وفي هذا الإطار يقول الدكتور ألكسندر ديل فالي، أستاذ العلوم الجيوسياسية والعلاقات الدولية في كلية الأعمال التابعة لـ “معهد إعداد الإدارة العامة” في فرنسا، في كلمته لندوة نظمها مركز "تريندز للبحوث والاستشارات" تحت عنوان “فكرة الدولة الوطنية في نظر الإخوان المسلمين”، أن "جماعة الإخوان المسلمين عملت منذ نشأتها على يد مؤسسها حسن البنّا على بناء دولة موازية، وتبنّت في ذلك نهجاً متدرجاً من خلال أدوات عدة، كالسيطرة على التعليم والتربية والثقافة، بالنظر إلى دورها في تنشئة الشباب، ولهذا اهتمت الجماعة بإنشاء العديد من المدارس والمؤسسات الثقافية التي تساعدها على التغلغل في أوساط الشباب والمجتمع بوجه عام. وقد تأكد ذلك من خلال سماح حركة النهضة بإنشاء مدارس قرآنية قانونية تخضع لرقابة الدولة وأخرى سرية في المناطق النائية التي تأسست على ثقافة الجماعة المتشددة.

لا يحمل الفكر الإخواني الذي تمثله حركة النهضة في تونس أيّ من التيارات التنويرية أو الانسانية الذي يتأسس على وجود المفكرين والمبدعين والمجدّدين والشعراء والروائيين وكبار المثقفين والكتّاب والفنانين، مما جعلها تمكث في مستنقع التعبئة الجماهيرية وشحن العواطف الدينية والتهويلات والشعارات والصراعات السياسية والتفسيرات غير الدقيقة للتاريخ وتطور الأحداث، والتشهير بالمخالفين. 

ولهذا موّلت الحركة جماعات ومليشيات من أنصارها واستغلت بعض التيارات السلفية لوقت ما في التحريض وتهديد كل فكر إبداعي أو الاعتداء على كل صاحب فكر يخالف ويفضح حقيقة ما ترنو إليه العقيدة الإخوانية، المتشددة سرّا، وذلك تحت معطى فضفاض "السخرية من الدين الاسلامي والاستهتار بتعاليمه"، لغاية إرساء تعاليم الدين على شاكلة تفاسير الفكر الإخواني. 

وقد أكد القيادي في حركة النهضة عبد الفتاح مورو في ندوة دينية للإخواني المصري وجدي غنيم أن " غاية الحركة هي الأجيال القادمة وليس الجيل الحالي"، ذلك أن حركة النهضة تؤسس لزرع ثقافة جديدة، ثقافة إخوانية بحتة، في عقول الأجيال الجديدة بدل الثقافة التي تأسست عليها منظومة المجتمع منذ الاستقلال.

وإلى جانب هذا، لم تكن مجالات الصحة والتعليم وغيرها بمنأى عن سياسة الهدم الكامل والتأسيس لمنظومات جديدة من طرف حركة النهضة، يكون فيها المثل الأعلى التجربة الإخوانية، في دول مثل تركيا أو بعض دول آسيا، ودحر مفهوم الدولة القطر أو الدولة الوطنية التي لا إرتباط بها سوى مفهوم العقيدة. وتحت شعار الشرعية والحرية وحقوق الانسان وحرية التعبير والاستعانة بالدول الكبرى التي خلقت هذا التنظيم السياسي وهذا الفكر لهدم الدول، تحاول الحركة جاهدة أن تنزع عنها ركام فشلها طيلة العشرية الماضية في سدّة الحكم، وستواصل البحث عن سبل لتظلّ في المشهد السياسي حتى تكمل تنفيذ أجندتها التخريبية.