شعار قسم ميدان

امنح عاداتك السيئة قيمة نقدية.. أستاذ في هارفارد يقدم خطة فعالة للتغلب على إضاعة الوقت

مقدمة

في تلك اللحظات القليلة التي نقف فيها جانبا للتساؤل عما حدث، ربما بعد أن ساءت الأمور وفشلنا في الوصول إلى أهدافنا المنشودة، فإننا عادة ما نُعيد النظر إلى ما أضعناه من وقت بصورة سلبية تماما، حيث نبني جداولنا مرة أخرى مُحاولين ألا نُضيّع أية دقيقة، لكننا بذلك نُفوِّت ما قد يكون السبب في مشكلاتنا حقا، وهو تأمُّل ما نفعله في الوقت الضائع نفسه، لأنه دائما ما سيكون هناك وقت ضائع شئنا أم أبينا، والمشكلة ليست في تنحيته، بل ربما في العمل على فهمه وتنظيمه، في هذا التقرير يساعدك آرثر سي.بروكس، أستاذ ممارسة الإدارة في كلية هارفارد للأعمال، في تنظيم وقتك الضائع.

 

نص الترجمة

قبل عدة أيام، وفي محاولة للتملُّص من أداء عملي بعد الظهر، قرَّرت التقاط كتاب "والدن" (Walden) لهنري ديڤيد ثورو (وهو عبارة عن سيرة ذاتية للمؤلف خلال عامين قضاهما في بيت صغير بناه قرب بحيرة "والدن بوند" في ماساتشوستس بالولايات المتحدة)، وسرعان ما اتضح لي أنه الخيار المناسب، إذ يحمل ثورو الكثير في جعبته ليُخبرنا عن إضاعة الوقت، فهو يُقول في أحد الاقتباسات:

 "ثمن أي شيء عندي هو مقدار الوقت الذي أقضيه في ممارسته، حاليا أو على المدى الطويل".

كتاب "والدن" (Walden) لهنري ديڤيد ثورو

لا تتمحور وجهة نظر ثورو حول ضرورة أن ينصبَّ تركيز الجميع على العمل دون مُتنفِّس للهو أو اللعب، بل على العكس من ذلك، إذ يُعَدُّ ثورو أحد أبرز منتقدي هذه النظرية، لكنه يقول إننا نُهدِر الكثير من حياتنا في أشياء لا نُقدِّرها في الحقيقة، وبدون التروي للتفكير في هذا الأمر يصبح الفشل الذريع حليفنا حينما يُختبر مدى تقديرنا لتكلفة الأشياء والعائد النفعي منها مقارنة بما نُنفقه، ولم يكن المال هو مقياس الاختبار هنا، بل كان الوقت؛ وهو العامل الأهم.

من الصعب دحض هذه الحجة بالفعل، والسبب في ذلك أنها تستند إلى حقيقة تقول إن العديد من وسائل التسلية التي نقضي وقتا طويلا من حياتنا فيها تبعث فينا فقط شعورا بالرضا المؤقت، ولكننا سرعان ما نسقط تحت أنقاض القلق ونعض أصابعنا ندما بعدما ننجح في انتشال أنفسنا بعيدا عن هذه الوسائل.

أهم الأمثلة هنا يأتي من تقرير لشركة "نيلسن" (التي تقيس حجم جمهور التلفزيون). في الربع الأول من عام 2020، كان المواطن الأميركي العادي يقضي ثلاث ساعات و43 دقيقة يوميا في مشاهدة البث التلفزيوني المباشر، وعلى الرغم من أن هذا يُعَدُّ إهدارا لعدد ساعات كبير، فإنه لا يزال أقل من ثلاث ساعات و46 دقيقة يقضيها هؤلاء مُحدِّقين في هواتفهم الذكية.

الأنشطة خارج العمل ليست بالضرورة مضيعة للوقت، وإنما على العكس من ذلك، إذ تُفيد كثير من الأدلة البحثية أن قضاء الوقت في أحلام اليقظة والاستمتاع بالهوايات البعيدة عن العمل لا تقتصر فوائده فقط على تحقيق السعادة، وإنما يساعد أيضا في تحسين أداء العمل، والوصول إلى مستويات أعلى من الإبداع.

 

ملوك إضاعة الوقت

ثمة طريقتان لا ثالث لهما لإهدار الوقت فعليا؛ إما أن تنغمس تماما في شيء يصرفك عن الأنشطة الأكثر إنتاجية، وإما أن تغوص عمدا داخل شيء لا يسترعي في الواقع حبك أو اهتمامك من الأساس. قد نسقط أسرى للقلق والندم تحت وطأة هاتين الحالتين من إضاعة الوقت، أما إن تجنَّبناهما، فبوسعنا تحرير أنفسنا، حيث سنُفاجأ بمخزون جديد من الوقت يمكننا استغلاله بطرق مُبهجة ومُثمرة.

لقد فعلنا ذلك جميعا، أهدرنا أوقاتنا على شيء ما، وأعطيناه الأولوية على حساب شيء آخر أكثر قيمة، ثم جلدنا أنفسنا بسياط الندم فيما بعد. في إحدى المرات، بقيتُ مستيقظا حتى الثالثة فجرا أشاهد فيلم "Howard the Duck"، الذي صُنِّف أحد أسوأ الأفلام في التاريخ، وحدث ذلك في الليلة التي سبقت مقابلة عمل صباحية مهمة (ولزيادة الطين بلَّة، ما زالت حبكة الفيلم تقبع في ذاكرتي).

في هذه الحالة، اعتمد إهدار ذلك الوقت على خطئي في تقدير ثمن الفرصة البديلة لمشاهدة الفيلم، فلم أَزِن بدقة قيمة كل شيء آخر كان بوسعي القيام به بدلا من ذلك، كالنوم مثلا. لو كان البشر مخلوقات عقلانية تماما، لتمكَّنَّا حينها من دراسة تكاليف وفوائد كل نشاط دراسة كافية لتجنُّب مثل هذه الأخطاء، أو على الأقل عدم تكرارها، لكن تجاربنا جميعا في الحياة ساعدتنا على إدراك أن الأمور لا تسير على هذا النحو.

بل وحتى الخبراء أنفسهم لم يسلموا من الوقوع في هذا الخطأ، ففي إحدى التجارب على خبراء اقتصاديين، فشل ما يقرب من 80% من المشاركين في تقدير تكلفة الفرصة البديلة تقديرا صحيحا (الفرصة البديلة هي فائدة كان من الممكن أن يحصل عليها الشخص، ولكنه تخلَّى عن ذلك لتحقيق أمر آخر).

تقع هذه الأخطاء جرّاء عدم التخطيط السابق، حيث نستسلم لهذا المُراهق المندفع داخلنا، الذي لا يرى الغد، بل لا يملك مفهوما عنه، وفي الوقت نفسه يسيطر على وظائفنا العقلية التنفيذية. يقودنا ذلك إلى المبالغة في تقدير قيمة المُتَع قصيرة المدى والتقليل من شأن الأشياء التي تُحقِّق الرفاه على المدى الطويل. قد تكون نتائج ذلك تافهة إلى حدٍّ ما، مثل لعب "Angry Birds" (الطيور الغاضبة) لمدة عشر دقائق أخرى، أو أكثر خطورة كاتخاذ قرار بالتدخين ليوم إضافي (كل يوم).

 

هل نحن مدمنون؟!

لقد أدركتُ مدى كرهي لفيلم "Howard the Duck" بمجرد انتهائه، لكننا نحن البشر -وعلى نحو مُحيِّر- نُهدِر الكثير من الوقت للقيام بأشياء نعلم سابقا عدم رغبتنا في تأديتها! إنْ تأمَّلنا الهاتف الذكي على سبيل المثال، فسنكتشف أنه أداة تمنحنا استفادة وراحة، ومع ذلك أعلن ما يقرب من واحد لكل ثلاثة من مالكي الهواتف الذكية في استطلاع لعام 2015 أنه يُثير في أنفسهم شعورا "بالقيد" أكثر من كونه مصدرا "للحرية"، لهذا القيد عواقب وخيمة، فقد ربط علماء النفس الاستخدام المفرط للهواتف الذكية بـ "الإدمان الرقمي"، الذي بدوره قد يُؤجِّج فينا الشعور بالوحدة والقلق والاكتئاب.

فما سبب خضوع الملايين لوطأة هذا القيد؟ مثل كل شيء آخر يتسبَّب في الإدمان، يسيطر علينا الاستخدام المفرط لهواتفنا بتحفيزه نظام المكافأة داخل أدمغتنا، يمنحنا هذا شعورا بالإشباع الفوري، ولكنه شعور قصير المدى يتلاشى سريعا ويتركنا فريسة ندم يأكلنا، لكننا سرعان ما نتلهَّف مجددا للحصول على جرعة أخرى.

يجب أن ندير وقتنا وفقًا لأولوياتنا، من خلال التمييز بين مضيعات الوقت التي نحبها والتي لا نحبها، وتخليص أنفسنا من الأخيرة.

أضف إلى ذلك أنه حتى إن لم يرتقِ وضعنا (مع الهواتف الذكية) إلى مستوى الإدمان، فإن أي إهدار قهري للوقت لا يجعلنا أكثر سعادة على المدى الطويل -سواء قضيناه في مشاهدة فيديوهات للعبة السوليتير، أو مقاطع فيديو للقطط-، لكنه على النقيض يضر بسلامتنا النفسية على المدى الطويل أيضا.

من أجل الوصول إلى أفضل قدر ممكن من السعادة والإنتاجية، يجب ألا يكون هدفنا هو عصر الوقت الذي نمتلكه للتخلُّص من كل ثانية تتضمَّن الإلهاء أو الراحة. لكن بدلا من ذلك يجب أن نُدير وقتنا وفقا لأولوياتنا، من خلال التمييز بين مضيعات الوقت التي نحبها وتلك التي لا نحبها، وتخليص أنفسنا من الأخيرة. إليك طريقتين للبدء: جدولة وقت فراغك أو راحتك، ومنح عاداتك السيئة قيمة نقدية.

 

جدول أوقات فراغك

أفضل سبيل للتعامل مع مشكلة "تكلفة الفرصة البديلة" هي عدم تأجيل قرارات الاستفادة بالوقت إلى اللحظة التي نبدأ فيها نشاطا ما، لأن السعي وراء الراحة قصيرة المدى قد يُشوِّش تلك القرارات لحظيا، ويُوصي كال نيوبورت (أستاذ مشارك في علم الحاسوب) في كتابه "العمل العميق" (Deep Work) بإستراتيجية أكثر إنتاجية تُسمى "تخصيص الوقت" (time blocking)، وذلك باتخاذ قرارات حول كيفية استخدام الوقت سابقا، ثم الالتزام بالجدول الزمني.

لا يجب أن يقتصر مفهوم تخصيص الوقت على العمل فقط، فوفقا للأشخاص الذين لم يتيسر لهم العمل إلا من المنزل خلال فترة الوباء، اجتاحهم شعور بأن الحياة قد امتزجت بالعمل بشكل أصابهم بالإحباط، وذلك نتيجة لعدم وجود هيكل زمني يفرضه مكان العمل الرسمي.

من وجهة نظري، فإن تخصيص الوقت يشمل كل شيء، بما في ذلك الهوايات وأوقات الفراغ وحتى أحلام اليقظة، فبإمكانك على سبيل المثال ترك خانة في مخططك من الساعة 1:30 إلى 2 ظهرا مُخصَّصة "للوقت الضائع".

أمام هذا التنظيم لن يسعك إلا أن تتفاجأ حينما يصبح "تضييع الوقت" ضيفا مدعوا في جدولك الزمني، ولم يعد مجرد دخيل رغما عنك، بالتالي لم تعد له صلاحية إفساد وتيرة يومك كما اعتاد أن يفعل، في تلك الحالة ستزداد احتمالية عودتك إلى العمل عند الثانية ظهرا إلى حدٍّ كبير.

 

امنح عاداتك السيئة قيمة نقدية

في عام 2012، أجرى اثنان من الباحثين في علوم الإدارة في جامعة تورنتو سلسلة من التجارب التي طلبوا فيها من المشاركين التفكير في دخلهم في الساعة، وتحديد قيمة نقدية للوقت الذي يقضونه في الأنشطة الترفيهية. على سبيل المثال، طُلب إلى المشاركين أن يُفكِّروا في الوقت الذي يستغرقونه في تصفُّح الإنترنت باعتباره جزءا مقتطعا من أجورهم (أجور ضائعة)، وقد قلَّل التفكير على هذا النحو من سعادة الناس المُستمَدة من ممارسة أنشطتهم الترفيهية.

فسَّر الباحثون ذلك على أنه نتيجة سلبية لتحويل أوقات فراغهم -عقليا- إلى قيم مالية، ولكن لدى هذه الطريقة فرصة فعالة لردعنا عن الانخراط في أنشطة إدمانية لا نهواها. لنفترض مثلا أنك تُفرط في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، التي توصَّلت الأبحاث مؤخرا إلى أن الإفراط في استخدامها يُقلِّل من السعادة، خاصة بالنسبة للشباب، فإذا كنت تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي في أميركا بمعدل متوسط (نحو 142 دقيقة في اليوم)، وتكسب متوسط أجر في الساعة نحو 29.92 دولارا، فأنت بذلك تُنفق نحو 71 دولارا من الوقت يوميا في هذا النشاط.

والنصيحة البسيطة هنا هي: في بداية كل يوم، تذكَّر أجر كل ساعة، وردِّده على مسامعك كلما شرعت في شيء قد يلتهم وقتك، في تلك الحالة ستتخذ على الأرجح قرارا فعالا من حيث التكلفة إزاء استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، لتمر سريعا فيما بعد على ما يحدث في حياة أصدقائك مرور الكرام، وتلتقط الأخبار بسرعة، بدلا من تحفيز نظام المكافآت في عقلك، وتضييع ساعة كاملة هباء في التصفُّح العشوائي.

ثمة مقطع ساحر في كتاب "والدن"، يُشبِّه فيه "ثورو" الوقت بالنهر، ويقول فيه: "لا يُمثِّل لي الوقت سوى النهر الذي أذهب إليه للصيد والشرب، لكن بينما أشرب يتراءى لي القاع الرملي فأكتشف مدى ضحالته، ينزلق تياره الرقيق بعيدا، ورغم ذلك يبقى الخلود". إن التأمُّل في نهر الزمن -حتى بدون اصطياد أي شيء- لا يُعَدُّ ضياعا للوقت، بل هو نوع خاص من التفكير الحالم.

لا تكمن المشكلة إذن في ممارستك لصيد الأسماك، أو أي طريقة تُفضِّل لفعل ذلك، وإنما في متى يتعيَّن عليك ذلك. أدركت أن هذا هو الحال مع أي هواية أو نشاط، حتى مع قراءة كتاب "والدن"، فرغم أنه كتاب رائع مفعم بالبصيرة، فإنه يتعيَّن على المرء في مرحلة ما أن يترك الكتاب جانبا ويعود أدراجه إلى العمل من جديد.

____________________________________________

هذا التقرير مترجم عن: The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

ترجمة: سمية زاهر.

المصدر : الجزيرة